تصحيحاً للتاريخ ( قنبلة مطارعدن الشهيرة)

قنبلة مطارعدن الشهيرة
(اوآخر ديسمبر1963م)
-----------------------------
 ديسمبر 2018م والعاشر منه تحديداً يوافق الذكرى الخامسة والخمسين لقنبلة المطار الشهيرة في عدن التي اعادت رسم المشهد كله وفقاً لقانون الضرورة ومتواليات الحالة الوطنية..
فكانت بمثابة إختراقٍ للصمت بعد محاولة تخذير المشاعر الوطنية للشعب ومصادرة آماله..
 لقد تعمد البعض من الكتاب والسياسيين وبعض النخب النظر إلى التاريخ الوطني لمدينة عدن بكثير من الازدراء تارة والتسطيح تارة اخرى وحسب الاهواء  الحزبية  والسياسية وهي نظرة ضارة غير موضوعية فعدن لم تطلب من احد شهادة براءة لها فقد ابدع رجالها وصاغوا ملحمة وجودها الاسطوري واداروا مشروعها النهضوي العلمي والثقافي بكل كفاءة وإقتدار معتمدين على مهاراتهم الناعمة حتى حازت عدن على شهادتها الدولية بفعل هؤلاء الرجال الافاضل ونساءها الاماجد الذين نظروا إلى مدينتهم التي تحتفظ بعناصرها الذاتية والموضوعية التي حباها الله بها فامتزج ذالك مع جهدهم الخلاق الواعي فجاءت تلك الوصفة السحرية الذي نتاجها عدن الجميلة تاج الجزيرة ومنارة العالم وعروسة البحار.. فشكلت بذالك إحدى أهم المنعطفات الهامة في المسيرة الكونية للتاريخ قبل ان تمتد اليها أيدي العابثين فدمروها مع سبق الاصرار والترصد..
فلو نظرنا إلى طريقة التفكير ومخرجات تلك الكتابات التي ضلت أسيرة مدادها الأسود على إمتداد حقبة تاريخية بدأت من 67م وامتدت حتى 90م ومايليه كتحصيل حاصل لمرحلة تاريخية سابقة ارادت احراق المراحل فاحترقت بها وإختزال الزمن فاختزلت مرحلتها وقذف بها التاريخ الى قاعه..لقد مارس هؤلاء حالة من التزييف الممنهج وثم أعدام الكثير من الوثائق المتصلة بصناعة التاريخ في هذه المدينة العريقة وعمد البعض حتى الى نزع السمة الوطنية للعدنيين واعتبارهم نسيج مؤلف من جنسيات وافدة..و هذا ليس عيباً بحد ذاته اذ أن طبيعة المدن وخاصة الساحلية مثل عدن تقتضي مثل هذا الانسجام والتآلف بين طوائف وديانات واعراق متعددة تستلهم القدرة على توظيف هذا النسيج وإعادة صياغته بصورة خلاقة مبدعة يشدهم تلاحم وطني ومعايير اخلاقية مدركة لحقائق الانتماء الراقي الذي يضمهم  فينسى الفرد فيه كل شىء الا انه ينتمي لهذا الزمن الخلاق وهذه الجغرافية المبدعة المسمى عدن.. خاصية عدن انها استطاعت أن تغزل نسيجها الخاص بها من كل ألوان الطيف التي عاشت بها
فهل بعد ذالك الا ان تكون عدن حاضرة بالمشهد العام وانها قد حجزت مقعدها في مضمار سباق التنافس الحضاري واصبحت لصيقة التفوق في كل مجالات الحياة حتى موعدها في القضايا الوطنية كانت سباقة ومن هنا جاءت قنبلة المطار الشهيرة في يوم الثلاثاء الموافق 10 ديسمبر 63 م..
العملية كانت جريئة وسطرت السطر الاول في سفر التاريخ الكفاحي الوطني الحديث لعدن لأهميتها النوعية وإمتدادها الطبيعي في تصاعد المد الثوري..وقام  بتنفيذها خلية وطنية مؤمنة بقيادة ابن عدن البار خليفة عبدالله حسن خليفة وآخرون.. وهي حادثة مفصلية غيرت وجه التاريخ في المنطقة كلها وأحدتث ذويا سياسيا واعلاميا وأصبحت في بؤرة الحدث.. فشكلت احدى أهم روافد الوعي الوطني وانجزت مهمتها التاريخية بنجاح إذ أجبرت هذه الحادثة كل الطيف السياسي ومنهم الجماعات والتنظيمات المسلحة  التي اعلنت الكفاح المسلح  من نقل معركتها من الريف الى المدينة لأنه من الصعب بمكان قيام حراك مسلح في الاطراف حيث صبغ معظمه بطابعه المحلي حتى كانت قنبلة المطار التي تعد إيذانا وتدشينا منظما وواعيا للعمل الفدائي في قلب المستعمرة عدن وأمام الأشهاد فكانت بحق شهادة ميلاد جديدة لهذه المدينة التي استوعب أبناءها المرحلة وحملوا الراية وكانت فاتحة شهية لكي يأخذ الآخرون دورهم بعد ان تقدمت الكوكبة العدنية الصف وأعادت تلك الصورة الناصعة للمقاومة بمعناها البطولي وهو الامر الذي قاد فيما بعد الى تهميشه والانتقاص منه بل وعدم الالتفات اليه وتقدير حجمه النوعي وتاثيره الواسع فلم تعرْ أطراف سياسية بعينها اي اهتمام لها ولم تحظَ بأي نوع من الاهتمام  في اعلام الدولة الفتية وخلت كل الدراسات والوثائق وكذا المناهج الدراسية ومراكز الأبحاث من ذكر هذه الحادثة بينما نسبوا لأنفسهم بطولات دنكوشوتية قارعوا فيها الهوى وكتبوا تاريخا مزيفا لوّث التاريخ الوطني ولم ينصف عدن..لذا فإن عملية المطار دشنت الكفاح المسلح الحقيقي في المدينة عدن والجنوب كله وأسهمت هذه الحادثة في زيادة العمل السياسي والفدائيي وارتفاع منسوب الاداء الوطني الذي قابله شراسة في الميدان كما اعاد هذا الامر  ترتيب الاوراق من قبل كل الاطراف والاحزاب بما فيهم الانجليز الذين اعلنوا قانون الطوارئ في محاولة لإغلاق كل مسامات الحراك الوطني الذي زادت وتيرته فلم يتنفس الاحتلال الصعداء الا مع أخر جندي وضع قدمه على طائرة الرحيل الاخير ومعه انتهى العمل بهذا القانون مع النسمات الاولى الطرية للاستقلال الوطني المجيد..

ان يكون عندك حدس وطني عالي وتستطيع أن تلتقط اللحظة الحاسمة وتفعيلها بتوجيه ضربة أستباقية موجعة لأهم مفصل من مفاصل سلطة الاحتلال وقدرتك على أختزال الهم الوطني في عمل من نوع جرئ كقنبلة المطار التي انهت المنابزة بالكلمات ودلّت على أن كوامن الفعل عندك قد اكتملت وبلغت منتهاها وان لحظة التعبير عنها قد وأتت فرصتها وبالتالي يجب إنجازها..
وعلى هذا الاساس فإن قنبلة المطار يجب الا ينظر إليها كحادثة عرضية بل كانت تعبير عن حالة الاحتقان السياسي وانسداد الافق امام تطلعات المواطنين لتحقيق وضعا مميزا ومؤثراً في اطار اي تسويات محتملة وعكست تجليات الحالة الوطنية المشبعة بالفعل وارتقاء الاداء لمواجهة السياسة الاستعمارية في المنطقة وخاصة خطة المندوب السامي السير كنيدي تريفاسكس التي اراد الحاق المستعمرة عدن وضمها في اطار اتحاد شكلي غير فاعل تحت مسمى الجنوب العربي عن طريق المؤتمر الدستوري في العاصمة  البريطانية لندن للتهيئة للخروج من المستعمرة عدن والمحميات المجاورة وهو المؤتمر الذي كان احد ادوات الضغط الذي مورس على عدن للاشتراك به بوفد مثله زين باهارون رئيس وزراها التي شُكلت في يوليو 1963م على اثر وفاة رئيس وزراء عدن الاسبق حسن علي بيومي..
كانت خطة بريطانية التخلي عن ألتزاماتها تجاه المستعمرة عدن وخلط الاوراق والاعلان عن نية للانسحاب الشكلي وتقويض كل الجهد الوطني الرافض لمثل هذه التوجهات والاساليب الاستعمارية للافلات عن اية التزامات سياسية او مالية او اخلاقية وهذا مااراد ان يحققه المندوب السامي تريفاسكس  التي لاتعني منه اكثر من حركة في الفراغ لتهديد الوطنيين بان البديل جاهز.. لقد كاد المندوب السامي تريفاسكس نفسه ان يكون احد ضحايا مشروعه لان عمليه المطار استهدفته بالاساس لأحداث الأثر المطلوب وتوصيل الرسالة..فعند الساعة العاشرة صباحا ذوى انفجار شديد في ساحة المطار وفي لحظة مغادرة بعض حكام الولايات الى لندن للمشاركة بهذا المؤتمر الذي هندسه تريفاسكس نفسه وقتل في الحال  نائب المندوب السامي جورج هندرسون واحدى المواطنات الهنديات التي كانت عابرة بالصدفة الى طائرة الخطوط الجوية الهندية..كما اصيب العديد من الاشخاص من بينهم السلطان احمد عبدالله الفضلي سلطان سلطنة الفضلي ووزير الاعلام  والشيخ علي اسماعيل تركي صهر السلطان الفضلي حضر لتوديعه وقد اظهرت التحقيفات ان القنبلة من نوع (مايلز)شديدة الانفجار..وكان عناصر الخلية مشكلة من ثلاثة افراد هم السيد خليفة عبدالله حسن خليفة قائد المجموعة والسيد محمد عبد المجيد المية والسيد أحمد ناصرالقشبري وعناصر لوجستية هما عبد الرحيم قاسم وناصر عبدالله اليافعي وآخرَين للحماية والاسناد من ضباط الامن وهما عثمان خان ومحمد علي اسماعيل وبتنسيق مع السياسي الوطني البارز عبدالله الاصنج زعيم حزب الشعب الاشتراكي ورئيس المؤتمر العمالي
على الاقل استطاعت قنبلة المطار ان تحسن من اداء المفاوض رئيس الوزراء السيد زين باهارون وان ينتزع لعدن وضعا مميزا وفاعلا في اي منظومة سياسية يفكر الانجليز في اقامتها وفي رسم سياسة مستقلة لعدن تمكنها من لعب دور مميز داخل اتحاد الجنوب العربي في حالة مورس عليها ضغطاً لضمها الى الاتحاد واظهرت قدرة المفاوض العدني في تحجيم تأثير المندوب السامي التي كانت علاقته بحكومة عدن مضطربة وغير متوافقة في كثير منها مع رغبة حكومة عدن وهو ماسجل نجاحا لبهارون بعد ان شكلت الاحداث المتوالية بما فيها قنبلة المطار عناصر دعم له فكان لاصداء قنبلة المطار والحشود المؤيدة التي خرجت للتنديد باعتقال الخلية ومحاكمة خليفة اثره الواضح في صانع القرار الوطني والارتباك التي ولدّته الحادثة لدى دوائر المندوب الانجليزي وقد اضطرت المحكمة الى إطلاق سراحه..لكن الاحداث الدرامتيكية التي حدث في عدن والجنوب وسياسة خلط الاورق والعبثْ بها ورغبة بريطانية في تسليم السلطات لطرف بعينه على حساب اطراف اخرى ساهمت بارتفاع ترمومتر الغليان الثوري وتسارع العمل الفدائي وقد حشر الاحتلال انفه ليفسد قطف ثمرة الفعل الثوري الوطني بافتعال مايمكن ان نسميه ازمات اللحظة الاخيرة وتعكير المزاج السياسي ومحاولة توجيه ضربة استباقية لعبد الناصر في اليمن ردا على مواقفه الوطنية في التحرر ونداءه لبريطانيا بالرحيل من المستعمرة عدن..كل ذالك اسهم في رسم الصورة الاخيرة قبل الرحيل وقد جاءت للاسف حزينة ومعبا بالسواد على الرغم من فرحة الاستقلال الوطني الذي شابه بعض الحزن نظرا لخروج فصائل مهمة في الحركة الوطنية والكفاحية وعدم ترتيب البيت الجنوبي بعد الاستقلال الوطني بما يليق ويشرح صدور الجميع
واخيرا نستطيع القول ان قنبلة المطار وبكل فخر كسرت حاجز الخوف النفسي امام سلطة الاحتلال وفعّلت الارادة الوطنية واعطت الدور الريادي لأبناء المدينة عدن كي يتبوؤا المشهد بكل جدارة فكان بعدها ليس كقبلها..