الاستهانة بالمعلم استهانة بمستقبل وطن

عندما نتحدث عن تطوير التعليم فإننا -قطعاً-  نقصد تطوير جميع عناصره، ويأتي" المعلم " في مقدمة تلك العناصر ، إذ لا معنى لمحتوى تعليمي حديث ولوسائل عصرية، ومبانٍ متطورة في ظل معلم يلهث وراء أبسط مقومات الحياة.

نحن - لا شك - نجيد التنظير، ونحسن صياغة العبارات التي تتغنى بالمعلم، ولطالما ردّدنا كلمات أحمد شوقي: " قُم للمعلم وفِّه التبجيلا...كاد المعلم أن يكون رسولاً"، وكثيراً ما نقرن بين دور المعلم في الحياة ودور الأنبياء، ولكن ، هل أحسنَّا ترجمة تلك العبارات إلى واقع يرفع من شأن المعلم، ويضعه في المكانة اللائقة به؟!! أم أن كلامنا أشبه بهشيم تذروه الرياح ليس له في الأرض قرار ؟!!!!

إذا كان طموح أحد أبنائك  أن يكون معلماً، فهل ستدعم طموحه؟! وإذا خُيِّرت أنت بين وظيفة في وزارة النفط أو في التربية فأي الوظيفتين ستختار؟! وإذا أدركت معلمك بعد فترة وقد أصبحت في مكان مرموق فبماذا ترمقه؟

المجتمعات التي ارتقت، كاليابان والألمان والأمريكان رفعت مكانة المعلم مادياً ومعنوياً فأصبح راتبه يفوق أحياناً راتب الوزير، وهيبته تفوق هيبة القاضي ويردد الكثيرون كلمة المستشارة الألمانية " كيف أساويكم بمن علموكم؟" في معرض إجابتها عن مطالبة القضاة بمساواتهم مع المعلمين في الأجور؟!!!

ليس للمعلم حق في التأمين الصحي، وليس من حقه الحصول على بدل مظهر ، أو بدل مخاطر، وليس للمعلم بدل تأهيل، وليس من حقه أن يرتقي في الوظيفة بدون فيتامينات المحسوبية؟!! فإذا يمّمنا وجوهنا تجاه الكثير من المدارس الأهلية أدهشتنا رواتبهم الاستغلالية، ومعاملتهم التجارية، وغياب ضمير الإنسانية  .  

ذات يوم نصحت أحد الزملاء بأن يستبدل ثيابه الرثة بثياب أجمل ليكون مظهره لائقاً ، فبدأ يعدد لي التزاماته مقابل ما يأخذه من راتب حتى شعرت بالحرج، فماذا نتوقع من معلم أفقدته الحياة حتى مجرد التفكير في نفسه والاهتمام بمظهره ؟

 في أوائل العام 2000 وفي معرض حديثنا مع وزير التربية ، وكنا إذ ذاك مضربين للمطالبة بزيادة الأجور-  قال أحد المعلمين يا: سيادة الوزير لنا زملاء يستلمون رواتبهم بالدولار، ومُوفَدون رواتبهم بالريال السعودي، ونصابهم من الحصص أقل من نصابنا، أو مثلنا، فقاطعه سعادة الوزير وقال : أتريدون أن نساويكم بهم؟! وتابع سخريته قائلا ً : بهذا المنطق سنطالب نحن بمساواتنا بالوزراء في دول الجوار، فكان الرد : نحن لا نبحث يا سيادة الوزير عن المساواة بهم أو بكم، كما أننا لا نبحث عن العيش الرغيد، نحن نتطلع إلى لقمة العيش وسد الرمق، والحد الأدنى من الحياة.

أفلا يكون واجباً على المدراء والقادة أن يقفوا للمعلم احتراماً وإجلالاً، وأن يخفضوا أصواتهم عند صوته؟!! بدلاً من دفعه إلى استجدائهم حقه، واضطراره للإضراب عن العمل بعد أن أجبرته ظروف الحياة، وتناوشته رماح الدائنين.

كيف نطالب المعلم بأن يعطي في ظل نظام لا يعطيه حقوقه، ويحرمه من أبسط حاجاته الإنسانية؟! المعلم اليوم يطالب بحاجاته الفسيولوجية من تأمين الطعام والشراب والغذاء، والتي تقع في أدنى هرم "ماسلو" للحاجات الإنسانية، أما الحاجات الخاصة بالأمان الصحي والأسري والوظيفي، والحاجات الاجتماعية والحاجة إلى التقدير فالمطالبة بها أمر يشبه الأماني والأحلام.

كيف نطالب المعلم بأن يقوم بدوره، ونحن لم نقم بدورنا تجاهه؟!  ودفعنا به إلى العمل في مهنٍ لا تُناسب مكانته وهو في أمَسّ الحاجة لتطوير ذاته، والقراءة في تخصصه .

نحن لا نطالب بالمستحيل تجاه بُناة الجيل من المعلمين، وإنما نلفت الأنظار إلى الجريمة الكبرى التي نرتكبها اليوم  في حق مستقبل الوطن باستهانتا بالمعلمين.

الاستهانة "بالمعلم" هو استهانة بمستقبل وطن، فهل آن الأوان إلى تقليص السفارات، والقنصليات والوزارات، والتخفيض من الامتيازات والبدلات والسفريات للمسئولين والمسئولات الأحياء منهم والأموات لصالح "التعليم" ولرفع مكانة المعلم، وتربية الجيل؟!!!!