الدكتور الشاعر مبارك حسن الخليفة، من مواليد أم درمان في السودان الشقيق في بلدة اسمها الموردة، ولعلها حي من أحياء المدينة عام 1931م؛ تلقى تعليمه في مدارس أم درمان حتى عام 1950م، وفي العام نفسه سافر إلى القاهرة والتحق بجامعة القاهرة كلية التربية قسم اللغة العربية، ثم عاد ليعمل في السودان معلماً.
حصل على الماجستير في الأدب والنقد عام 1970 ثم هاجر إلى دبي، وظل فيها ثلاث سنوات، ولكن لم يطب له المقام هناك، فسافر إلى عدن وعاش فيها أربعة وثلاثين عاماً، محاضراً ومتعاقداً مع جامعة عدن، في كلية التربية عدن قسم اللغة العربية.
في العام 1994م حصل على الدكتوراه من جامعة «هول بور» في باكستان، وحين عاد من عدن، بعد رحلته السنبدادية الطويلة الممتعة، عمل استاذاً في مدارس الأحفاد حتى تقاعد في وقت قريب .
مبارك حسن الخليفة، اسم قريب وحبيب إلى النفوس خاصة في عدن. كان أحد المناضلين في ثورة بلاده الاكتوبرية.
أول دواوين شعره بعنوان «الرحيل النبيل»، وأول قصيدة كتبها كانت بعنوان «أختي لوسي» وهي طالبة أمريكية فصلت من الجامعة .
يقول في مطلعها :
«أختي لوسي سوداء بلون الابنوسي
عاشت في أرض الحرية
أمريكا أرض الحرية
عاشت في لون الابنوسي».
اعتقل مبارك مرتين في بلاده، حين كان عضواً بـ«اتحاد الأدباء والكتاب السودانيين»، فمبكراً ظهرت النزعة الإنسانية في نفس شاعرنا وفي شعره .
اعتقل الأستاذ مبارك في بلاده مرتين، وكان ذلك في شبابه وهو عضواً في «اتحاد الأدباء والكتاب السودانيين»، ويعد واحداً من شعراء السودان المعاصرين من مثل محمد الفيتوري، وجيلي عبدالرحمن، وتاج السر الحسن .
الدكتور مبارك حسن الخليفة، شاعر وجداني جميل ظل متأثراً بالمد الرومانسي حتى في شعره الحداثي، وهو يكتب الشعر منذ الخمسينيات، وله عدد من الدواوين نشرت جميعاً في أعماله الكاملة عام 2004م في صنعاء، وهو كذلك ناقد ألف عدداً من الكتب في النقد الأدبي، فضلاً عن المقالات والدراسات والبحوث المنشورة ورسالتيه للماجستير والدكتوراه.
للدكتور مبارك في عدن سيرة طويلة وعطرة ومثمرة... لقد أحبها وأحبته فلم يقتصر ارتباطه بها بقاعة الدرس في جامعتها، ولكنه ارتبط بمعظم تفاصيل الحياة المدنية في عدن، فقد عرفته في عدن الصحافة والإذاعة والتلفزيون والمنتديات الأدبية والثقافية والمؤسسات التربوية، وقد جمعته صداقات حميمة مع أكثر المثقفين في عدن ومع المسؤولين في دولة الجنوب ومع بسطاء الناس حتى صار علماً ثقافياً وأكاديمياً وتربوياً من أعلام هذي المدينة الاستثنائية، ولم يقتصر نشاطه الاكاديمي في كلية التربية عدن بل تجاوزه إلى كلية الآداب وكلية التربية صبر، وكلية التربية زنجبار وكلية التربية الضالع والمعهد الصحي، وكان قد رأس قسم اللغة العربية في كلية التربية عدن عدداً من السنوات، وقد تخرج على يده العشرات من الدفع من طلاب البكالوريوس، وعدد من الطلاب من حملة الماجستير والدكتوراه .
كان فارساً من فرسان العربية في حبه إياها وفي الذود عنها أمام الغزو اللغوي الكاسح والجهل والتجهيل، الذين تعرضت لهم وكان له عموداً ثابتاً أسبوعياً في صحيفة «الأيام» تحت عنون «لكي لا نخطى»، استمر سنوات طويلة، وكانت تقبل على قراءته الخاصة والعامة .
إن في أعمال الشاعر الكاملة عدداً من القصائد خص بها عدن، وقد اعتمدت في رصدها على كتاب «عدن في عيون الكتاب والشعراء من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث»، الذي أشرف على جمعه وقدمه د. أحمد علي الهمداني، وراجعه الدكتور سالم عبد الرب السلفي، ولعل هناك عدنيات أخرى فيها أعمال الدكتور مبارك الشعرية .
ورد في هذا السفر الجميل سبع قصائد عدنية هي «البريقة في المساء»، و«عدن هواها قد تملك مهجتي» و«البعد يا عدن» و«يا بنت ذي يزن، إلى حبيتي عدن» و«صاحبي الجميل» مهداة إلى الأستاذ الجليل عبدالله فاضل فارع، و«سفينة الصحراء في الشيخ عثمان» و«عدن الجميلة» .كتب خليفة «البعد يا عدن» وهو في بالتيمور بأمريكا العام 1999م.
أما قصيدة «البعد يا عدن» محور مقالنا هذا، فقد استهلها الشاعر بهذا المقطع:
«البعد ياعدن
والشوق والحنين والشجن
تمور في مشاعري
في غربة اعيشها
واكتوي بعيشها
لو كان لي أن اوقف الزمن
لكي أعود حيثما تركتها
كي لا تفوتني في حبها
دقيقة من الزمن».
نحن هنا أمام مقطع قصير إذا تأملته وجدته جملة شعرية طويلة متماسكة، حتى وإن كتبت على شكل أسطر، إنه دفقة شعورية مركبة .
كتب الشاعر هذه القصيدة المشحونة بالشوق لعدن، وهو في بالتيمور في أمريكا في عام 1999م في إقامة عابرة لا دائمة ولا طويلة، بعدها عاد إلى عدن التي هزه الشوق إليها.
عدن هذه التي يحل فيها المهاجر أو المسافر من بعيد وبعد زمن قياسي يعدها وطناً له؛ فلا يشعر فيها بالغربة والغرابة، وحين يفارقها يحن إليها كما يحن إلى وطنه، فقد تركنا قرانا في الريف وحللنا عدن، ونحن فيها نحن إلى قرانا بعض الحنين، وهو حنين إلى الزمان والمكان معاً، ولكنا حين نغادر خارج الوطن يكون الشوق منصباً على عدن .
لم يحن الشاعر وهو في أمريكا إلى أم درمان، ولكنه امتلأ شوقاً إلى عدن فجرى قلمه بما جرى.
«ذكرت ساحلاً... ملك
علي كل ذرة تشع في دمي
الحب لك
والشوق لك
يا ساحل العشاق والهوى
تنام في أحضانك الرمال
وفي الحشى يستيقظ الشجن
في البعد يا عدن ».
في هذا المقطع ينتقل الشاعر من العام إلى الخاص والخاص هنا «ساحل العشاق»، ولعل أجمل ما في عدن شواطئها الملتفة حولها من أكثر جهاتها .
كلمات رقيقة شجية وجمل سهلة واضحة تمور بالغنائية حملت زخم الشوق إلى عدن .
عدن هي الماضي والحاضر وهي المستقبل
«رمال الزمان البعيد
رمال الزمان القريب
رمال الأبد
بصمتك هذا العميق
دوي بقلبي لا ينقطع
وسري دفنته في جانبيك
عشقت وكنت أغني غناء الشباب
غنائي (التقينا) ترجع أبين هذا الغناء
صدى يستمر... زمانا زمان
نداء بقلبي لا ينقطع».
في هذ المقطع تغيرت التفعيلة فقد كانت قبل (مستفعلن) فهي الآن (فعولن)...عدن هي الماضي والحاضر وهي المستقبل، فقد ألفاها الشاعر وطنه وتعامل معه أهلها واحداً منهم على مدى الأيام والسنين. إنه ينادي تلك الرمال ويروي لها ما جرى له في انقطاعه عنها مع أنه هناك عابر سبيل؛ فهكذا عدن تغادرها صباحاً وتشتاقها مساء؛ ها هو غناؤه قد اعتجن بغنائها بل هو غناؤها نفسه، فها هي أغنية «صدفة التقينا على الساحل ولا في حد» التي تعد موال المحبين الخالد في عدن تتعلق بالشاعر ويتعلق بها، فهي زمان ومكان وماض وحاضر ونشيد عاطفي أبدي.
وما أجمل ان يلتقط الشاعر هذا المعنى العدني العميق في قوله:
«وسري دفنته في جانبيك!»
فعدن تغسل وافديها بماء بحرها، وتدفن ماضيهم في رمال شواطئها وتنطلق معهم في تاريخ جديد، فإن تأبوا على ذلك لفظتهم بعيداً.
«سمعت هنا في بلاد الجليد
سمعت النداء
فشع بقلبي حب عدن
وسحر عدن
ودفء عدن
فذاب الجليد ... وذاب الشجن
وعاش بقلبي رجع الصدى
غناء عدن
وسحر عدن
وحب عدن».
لقد تردد صوت النون في كل أرجاء النص، مجسداً عدن تجسيداً صوتياً، فمثلما لعدن منظرها وطعمها وملمسها وعطرها، فإن لها كذلك صوتها الأغن .
لقد غادر الشاعر عدن مؤقتاً في سفرة علاجية، ولكن عدن رحلت معه فهو هناك يردد أغانيها أو يستمع إليها، ليبدد الجليد من حوله في تلك البلاد الغريبة، فلم يطب لهذا الكهل الأفريقي العدني (السوماني) -حسب مصطلح بعض الكتاب باعتبار السومانيين هم السودانيون الذين عاشوا في اليمن زمناً، واليمنيين الذين عاشوا في السودان كذلك- المتلهب لم يطب له المقام في موطن الثلج، وهو الذي يشتعل شعراً وعواطف.
وهو بهذا يذكرنا ببطل رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» حين كان في أوروبا .
لقد دبت عدن في سويعاته المغتربة، وبددت ذلك الجليد الغريب .
لقد انبثقت عدن من داخل الشاعر، وأثرت في ما حوله وهذه حاله شعرية وشعورية نادرة.