أصبح من الثابت أن سلوك الناس ، وأخلاقهم مع أنفسهم ومع الناس ، ليست أبنية ذاتية خالصة يصنعها الأنسان لنفسه بعيدا عن المجتمع، وأنما هي نتاج تصنعه أوضاع المجتمع من ناحية وأداة تؤثر فيه وتساهم في تغيره من ناحية أخرى.
وأن مايطرأ على سلوك الناس من متغيرات يصاحب مايصيبهم كأفراد وجماعات من شدة وعسر ، او رخاء ويسر
وفي حقبة زمنية بعيدة أثر الغنى والترف على السلوك ومايورثه من رخاوة في الطبع وبطر في النعمة ، وأستخفاف بالضعيف والمحروم وهي لاتختلف كثيرا عما نشاهده اليوم في محيطنا العربي والاقليمي وحتى الدولي...لنماذج سلوكية من هذه الانواع...ذات النظرة المتعالية تجاه شعوبنا ومجتمعاتنا
ومااريد الخوض فيه.هنا...أن الأخلاق كما تتأثر بالأوضاع الاقتصادية وتؤثر فيها....فأنها تتأثر أيضأ بالأوضاع السياسية وتؤثر فيها...
فالخير والشر متجاوران...فتجد أن النظم الاستبدادية القائمة على القهر والظلم التي تستند في قيامها وأستمرارها على سلب الحريات وأهدار الحقوق..وأمتهان الكرامات.. وتسليط اجهزة الاعلام والتوجيه على العقول والنفوس الى درجة حجب حقائق وتزييف الوقائع...وغسل الأدمغة...هذه النظم تترك بصمات ظاهرة على سلوك الناس ، وتصيب بنيتهم الاخلاقية بعاهات حقيقية يكشف عنها التأمل في أنماط سلوك الناس..تحت ظلالها القائمة
وعلى الجانب الاخر نجد النظم التي تستند الارادة الحرة للانسان والتي تسمح بمشاركة حقيقية للافراد ، تورق وتزهر وتثمر من رحيق (الكلمة الحرة) الشجاعة ، وتترك هي الاخرى بصماتها على أخلاق الناس وسلوكهم
وبالرغم من الحديث عن الحرية والاهتمام الهائل من المثقفين في عالمنا العربي...ورفع شعاراتها ، فأننا لانكاد نعرف دراسة حقيقية جادة مفصلة لهذه الظاهرة الا فيما ندر وبأستحياء
أن نظم الاستبداد ونظم الحرية يستعين كل منهما بمن يتناسب خلقه وسلوكه مع اوضاع النظام ومتطلباته...فينحاز فريق من الناس الى نظام الاستبداد ويغذيه بأخلاقه التي يحتاج اليها وعلى ثماره الخبيثة..متصدرا المجالس معتليا المنابر منتشرا في الساحات. ،،،
بينما ينزوي الاحرار الذين يضيقون بطبعهم بالاستبداد ويضيق بهم....اليس هذا بدليل على أن الاخلاق تنبع من منابع اخرى بعيده
ونظل نحن في دوامة التسائل فيما بيننا جميعا...كيف يحدث هذا والناس هم الناس ؟؟ والاقرب للواقع أن اخلاق الناس لاتتغير وأن الافراد هم الذين يتفاوتون
والجواب ان النفس الانسانية ذلك السر الأعظم أشبه بوعاء كبير يتجاور فيه الخير والشر وتتعايش فيه متناقضات النوازع والاخلاق....
فالامانة والوفاء مجاوران الغدر والخيانة ، والشجاعة تجاور الجبن والرضا بالمذلة
والرحمة الحانية تلاصق القسوة الضارية والعنف الدموي الذي ليس له حدود ،
ونجد التقوى تجاور الفجور
كل هذه الاخلاق المتناقضة تعيش بذورها الحية داخل نفس الانسان....وعلى باب هذه النفس صمام ...فيه من العقل والادراك نصيب ومن الارادة والاختيار نصيب ....
وحين ينفتح تيار الحياة تمتد يدا تستخرج من هذا الوعاء مايناسب المقام والبيئة والظروف والتعايش مع المتطلبات....ومن بينها انظمة للحكم وأوضاع السياسة.
ومانعيشه اليوم من واقع يؤكد أن أنظمة القهر ينكمش فيها الصدق وينزوي الوفاء وتتوارى الشجاعة وينكس العدل رأسه ، وتستعد الرحمة للرحيل وترتفع فيه هامات الكذب والخيانة وتتعالى أصوات النفاق والمداهنة وتمتهن فيه أنسانية الانسان....وأن طال زمن القهر والاستبداد ..ينسى البراعم من جيل الشباب طعم الحرية يتحول النفاق الى طبع مغروس وعادة تمارس دون تفكير....
هذا مانراه اليوم فعلا حين صار الدرهم والريال قبلة الناس وكعبتهم وفي ظلال من الخوف والقهر ، ينتهي بهم الامر الى عبادة الفرد أو أفراد ، وتسقط كل القيم الموضوعية التي ترتبط بها حياة الاحرار والمواقف والمشاعر والافكار.....وهذا منتهى التدني..وقاع الهبوط.
وبذكاء المستبد وفطنته ونفاذ بصيرته...يصبح المجتمع في خوف ويجمد الفكر ويقل الابداع ويتعرض العمل العام للعثرات نتيجة غياب النقد الذي يوجه ويبصر ويثري التجربة
أن المجتمعات التي تعيش في ظل الرؤية الواحدة لحاكمها الفرد قد يصلح حالها زمنا يطول او يقصر ، ولكن عثراتها حين تقع عثرات مدمرة وقاتلة..
فأننا نرى أن تعدد الاراء يظل أكبر الضمانات لترشيد حركة المجتمع وتأمينها....ومن هنا فأن حماية الكلمة وضمان حرية الرأي...يظلان في مقدمة الضمانات التي تحمي مسيرة أي مجتمع وبمختلف أطيافه ، وفي ضوء هذا نفهم حرص الأسلام وهو يدعوا الناس الى أبداء الرأي وأعلانه ويحمي حريتهم ويصون أمنهم بقوله سبحانه{{ ولايضار كاتب ولا شهيد}} ..
فأذا ارتفع منسوب القهر.وزال الخوف وكسر وأطمأن الناس ، وبدأت اخلاق الحرية تجيب النداء ، فأن اخلاق الخوف وطبائع الاستبداد التي أستقرت في كيان واتخذت لها أعشاشا وأوكار تظل تقاوم متشبثة بالحياة..
فيرى الناس في أنفسهم وفي الناس من حولهم مايحسبونه تناقضا يحارون في تفسيره....أنظمة ومؤسسات وتشريعات تؤكد الحرية وتعلن الامن وتبشر بسيادة القانون.....وبقايا أخلاق القهر والخوف يموج بها المجتمع حتى تكاد تسد الطريق على نظام الحرية وتفسد أمره.....
أن المخرج الحقيقي للمأزق الذي نمر به اليوم ..يأتي بمزيد من الحرية والديمقراطية..ذات الضوابط المعروفة...حتى تستوثق النفوس المترددة وتستيقن أن مجئ الحرية حقيقي وليس خداعا أو أستدراجا يعقبها قهر جديد...
حيث تصفى أخلاق الاستبداد للبقايا الباقية....وأن يحمل لواء ذلك أصحاب الفكر والكلمة والقلم...ويضرب فيها المثل أصحاب الحكم الرشيد وأهله....
وهنا دعوة وطنية نطلقها للنخبة الوطنية على كل الاصعد في يمننا الحبيب والمنطقة العربية برمتها...وان يدركوا بالمقام الاول أن الحرية ليست مجرد شعار...ولكنها ضمان حقيقي للرشد عند أتخاذ القرار وينبوع كبير من الخلق والسلوك المستقيم...
ولهذا نحن نؤمن أن حرية التعبير عن الرأي هي الاساس وتختلف عن سائر الحريات ولها مكانة هامة لانها في الحقيقة مفتاح وضمان لبقية الحريات....ولهذا وجب علينا وللامانة الكبيرة التي نتحملها كحملة أقلام أن نجد شكلا ومضمونا تعليمي وتربوي يشرح صفتها ومكانتها هذه ويثبتها في العقول والقلوب ، كما ينبغي وأن تكون له أثاره المنهجية والعملية والقانونية التي تقف في وجه كل تشريع أو قرار يهدد تلك الحرية أو يحول دون أداءها لوظائفها...
وأن نتوقف عن الحرية في العموميات والشعارات الغامضة....لاننا بحاجة الى دراسات أكثر تبين للحاكم والمحكوم..سوية
فوظيفتها بما يطرأ على أحوال الناس ومصالحهم وأخلاقهم من فساد وضرر...فأن غابت حل محلها القهر والاستبداد.....
وبغير هذه الدراسات...ستظهر اجيال تتحدث عن الحرية وتنادي بها دون أقتناع بفوائدها ، وهذا ما أوصلونا أليه بربيعهم العبري الغاشم لمنطقتنا العربية ....
مع أن هذا الاقتناع هو الضمان الحقيقي لها من وراء سائر الضمانات الدستورية والقانونية
وحينها ستكون الحرية هي القيمة العليا والشورى الصادقة هي النظام....وسيادة القانون..هي مظهر الدولة وجوهرها ، فأن شياطين الاخلاق ستولي هاربة مذعورة وسترتفع الأخلاق الحميدة الكامنة في النفس فتسارع الى ساحة النفس والمجتمع أخلاق الحرية في مشهد عظيم رأسه الشجاعة والصدق ، وخلفة الامانة والوفاء ، ومن حولهم جميعا الرحمة والعدل ويصبح كل أنسان في المجتمع بشرا فاعلا وسويا..حاكما ومحكوما........فهل أصبت بهذا الى الاشارة الملحة التي نحتاجها اليوم وقبل فوات الاوان؟؟؟؟