أبين العزيزة

لم يخطر على البال أن المساحات المطمورة والمغمورة الممتدة من شرق عدن إلى أبين ربما تختزن موارد كبيرة من الغاز الطبيعي وكذلك من النفط، وأن واحدة من كبريات الشركات العالمية " إيني الإيطالية" وضعت برنامج كامل للتنقيب، لكنها، لسوء الحظ، ما أن بدأت تعمل في تلك المنطقة حتى تفاجأت "بالربيع اليمني" في صنعاء يهز الساحة المشقَّرة بالمسلَّة البلدي التي تحمل عبارة "الإيمان يمان والحكمة يمانية"، ثم انسحبت تاركة أرض أبين للمستقبل الذي ما تزال أمامه منعطفات. 

لم تلتفت أبين في تاريخها الحديث إلى أنها، أيضاً ، أرضٌ غنية بالخامات الصناعية المتنوعة، وأن تضاريسها المنكشفة تمثل نموذج طبيعي فريد لمن يريد أن يتعلم الأرض وتاريخها وعصورها.

 


فظاهرها "المنبثق..." لوحة متكاملة لا يفسرها سوى أصحاب المعرفة، لأنها بالنسبة لهم تكاد تكون مقروءة بما يُستدل به على مكامنها الغنية.

 


ليس ذلك فقط بل أن الزراعة تعلمت حروف الأبجدية الخضراء على أديمها.. فإذا أردت عزيزي القارئ أن تفهم ماذا يعني "أقدم من التاريخ"، عليك أن تمسح أرضها من قمم الجبال إلى اتساع السهول وانخفاض الأودية حتى تصل الشواطئ الناعمة، وتحمل في الصيف كيس من السحاب على رأسك لتتعلم أن أهل تلك الأرض استَبَقوا ظاهرة الزمن المشخّص، ليس بوجودهم بل بأفعالهم وعلاقتهم بتلك الأرض وبسمائها حين جعلوا منها فراديس الفقراء، قبل أن يتفتق عقل إنسان القرن العشرين ليستثمر الدلتا ويُنشئ عليها مجتمع أخضر يعتبر أحدث مجتمع منتج حينها. وهناك ما هو أهم..

 


فمحافظة أبين لها رصيد هائل من الموارد البشرية: الأكاديمية والمهنية والحرفية ونخب واسعة الطيف من الاقتصاديين والإعلاميين والساسة والتكنوقراط والقادة العسكريين، وجيش من الأيادي العاملة في مختلف قطاعات الحياة، ويتمتع أهلها بالشجاعة والبساطة والقدرة على التضحية والصبر والتجديد المستمر في مواجهة الأزمنة المتقلبة. 

ولأن أبين منطقة الأقدار الصعبة فإن أطراف متعددة تعمل بلا هوادة لاستلاب قدراتها على التغيير وعلى بث الحياة الحقيقية في محيطها الجنوبي خاصة. المراحل لم تمهل أبين لحظة واحدة، في تاريخها الحديث، لكي تحصي دماء الأجيال وتتمهل لتخط العناوين على لوح الأسفار التي تجترحها، لهذا لا يتعب المؤرخون في أن يجدوا في سردياتها التراجيدية ملخص لكل مسارات التاريخ الجنوبي.

 


فهي النموذج-الأصل الذي يقاس عليه، وذلك قدر تقدم من أجله أغلى الرجال وكل من حملتهم رياح النداءات البعيدة وعادوا جنائزاً أو مواكب ملفعة بالبياض وبالحسرات، تقدمهم ثمناً في كل هزة تضرب الأرجاء من حولها دون أن يكون لها كأرض وشعب يد في أي شيء سوى في الخسارة، فلم تفدها الزعامات ولم تكسرها المكائد.

 


نصف قرن من الزمان تقاطرت المراحل وتكدست المنعطفات وتوالت المشاهد والخطابات وأبين هناك ما تزال تحتمل الضحايا وتتحمل الخذلان بكبرياء الصمت. لا ينبغي الخوض في أي تفاصيل لأن كل جزئية في التاريخ السياسي المعاصر لهذه المنطقة شاق ونازف، فلم تسترح ولم تُنصَف، وكلما تحرك أبناؤها لنصرة أخوتهم سبقتها البواريد وتغلغلت السكاكين في أحشائها المكلومة، لتبقيها رهينة لكي لا تدق أوتاد خيمتها ليحتمي بها الوطن المتعب. 

لكنها في كل مرة تنتصر في الأخير كما ستفعل الآن. قيل لنا منذ زمن بعيد بأن الجنوب لا يتصل بالجنوب إن ظلت أبين في غير مكانتها، فأبين أشد الأجزاء حيوية، إن مالت مال البعض عن البعض، وإن ثبتت تماسكت الجهات وأصبحت الأرضية حاملة لوطن مكتمل وقوي.

 


ولكي لا تتماسك، أصبح لزاماً على أبين أن تتوجع وتبقى "الأنا الأبينية" الكبيرة معطلة، فتُخلط الأوراق وتُستثمر الحروب كما ينبغي. ومع كل ذلك أبين لا تنضب ولن تستطيع أن تنضب، فأجيالها تتوافد إلى هذه الحياة ومواردها ما تزال على عهدها باقية في باطن الأرض وعلى ظهرها في انتظار الزمن القادم لا محال حين تتغير العناوين والأخبار وتأخذ أبين مكانتها كأرض الخيرات بصورة لم يعهدها الماضي..

فهي جغرافيا الوسط التي تتقاطع عليها أجنحة الشرق والغرب، تتوسد الراسيات اللائي يستشرفن الفضاءات الحرة، ويمور جسدها ليتجدد على أرض العطاء المُنتظر، بينما تغتسل أطرافها بمياه خليج عدن الدافئة… هذا الامتداد السخي المسكون بالشدائد والرجولة، لابد أن له استثناء كبير للغاية، وسيُدرك قريباً وقد أنضجته المآسي .