اعتدتُ أن أكتب شيئًا في مثل هذا اليوم، وهي عادة لا أريد أن أقطعها لأننا في عدن نؤمن بأن "قطع العادة عداوة" ، أقول في عدن وأنا أبعد عنها آلاف الكيلومترات من الشوق ومئات الساعات من اليأس، لأنني بطريقة ما لازلتُ هناك ابنة العاشرة التي تعقد ظفيرتها وتذهب للمدرسة كل صباح.
ما بين أغسطس وتاليه ضاع عام أجوف من عمري، خاليًا من المعتاد الذي أصبح بفعل المنع أجمل وأغلى، في هذا العام من حياتي عقدت صداقة ثمينة مع سقف الغرفة الذي حدّقت فيه طويلًا كل مساء، فكّرت ذات مرّة بأن الضوضاء التي خَفتتْ على وقع أقدام المأساة التي عشناها جميعًا، أتاحت لنا فرصة اكتشاف ذواتنا، وهذه ليستْ ديباجة مشروخة كما كنتُ أظن أنا أيضًا، تكتشف وأنت تحدق في سقف الغرفة بعد يوم عملت فيه كماكينة، خاليًا من قلق الوقت وهاجس السرعة ورهبة الخسارة بأنك محاط بحواسك كلها، ترتص حولك الأشياء التي تفكر بها حتى تكاد أن تلمسها، سيصبح حدسك أحد، وانتباهك أقوى وتفكيرك أصفى.
ولا أحد يسألني كيف! ما بين أغسطس وتاليه انفلق العام من المنتصف، صورة بهتت ألوانها تدريجيًا. لم أنجز شيئًا ملموسًا، أو مطموحًا، هذا العام، تصارعت أنا والانتظار ولازلنا نعترك، كانت هذه فكرة جديرة بالتجريب ولو لمرة واحدة، أن يتذوق أحدنا طعم الفشل ولو كان على هيئة "اللا نجاح".
ما بين أغسطس وتاليه تعلّمت أن نموذجك المتفرد في العيش والتفكير هو ما يجعلك إنسانًا حقًا، أن تبني قناعاتك وتجتهد في معرفة ما يناسبك وما تحب ليس أمرًا سهلًا، لأننا تربينا على أن نعيش في قوالب صنعها لنا الأهل او المحيط أو العرف السائد. تعلّمت أن العطاء لايقابل دائمًا بالامتنان وهذا ليس مبررًا للتوقف.
تعلّمت أن الحياة أقصر من ان تعيشها متحسرًا على خساراتك. تعلّمت أن الصبر هو أن تفعل شيئًا لا أن تقف عاجزًا. تعلّمت أن النكتة الألمانية لا ينبغي لها أن تُضحك أحدًا. ما بين أغسطس وتاليه توقفت عن مقاومة الغرق ومحاولة السباحة نحو اليابسة، استسلمتُ! ووجدتني أطفو فجأة على مخاوفي كلها، هذا المجتمع الجديد الذي كنت أخاف الغرق فيه لفظني هو بنفسه، لقد كنت قطرة الزيت التي تقاوم الغرق في الماء دون أن تعرف أنها لو تُركت ستصل السطح بأقل تكلفة..
أنا ومجتمعي الجديد نحاول التعايش وفق نفس المبدأ، نحن في إناء واحد ولكننا ماء وزيت. ما بين أغسطس وتاليه اجدت لغة ثالثة وأصبح في رأسي عقل ثالث أفكّر فيه، يقال بأن لكل لغة أسلوب تفكير مختلف، رئة ثالثة تطل بها على هذا العالم المليء بالاختلاف والدهشة، تشعر في نهاية اليوم وأنت تحصى عدد الجمل التي قلتها دون تلكوء بأنك ربحت معركة، تعلم أنها ستتكرر في اليوم التالي، وقد تخذلك فيها ذاكرتك او قلة معرفتك.
كل يوم خارج دائرة راحتك هو فرصة للتعلّم وهذا أمر لايمكن مقاومة إغرائه. ما بين أغسطس وتاليه خسرت ٨ كيلوهات من وزني في رحلة التخفّف من أشياء كثيرة، تخففت فيها من صداقات زائفة وتخلصت من أشخاص مؤذيين، رميت الخوف خلف ظهري مرات كثيرة، وقمت بقرارات شجاعة، قدمت استقالة كلفتني كثيرًا، رفضت الظلم والاستغلال والكذب، تخففت من أحمال نفسية ومن تركة المجتمع ونظرة الناس وأحكام الغير وقلق المثالية وسباق المظاهر.
ما بين أغسطس وتاليه رفعت شعار البساطة، كنت أظن في السابق أني انسانة بسيطة واكتشفت بالقليل من التدقيق وشجاعة التخلي أني كنت أبعد ما يكون، أعرف أنها رحلة ستكون طويلة لن أصل فيها أبدًا للزهد الكامل ولكنها رحلة جديرة بأن تخاض ولو توقفت عند المنتصف.
ما بين أغسطس وتاليه وجدت الحب، الكثير منه، وإن كان هذا أهم مافي العام، فهو أكثر مافيه قلقًا.
كل عام والعالم بخير، ولتنتهِ 2020، حبًا بالله.