غريب الجلنار...

عدت من عملي ظهرا وذهبت كعادتي لأخذ قسطا من الراحة بعد يوم شاق نمت كثيرا ولم أدرك الوقت حتى استيقضت على صوت ابني الذي أخبرني أن الساعة هي السابعة مساء قمت مسرعا كي أؤدي ما فاتني من صلوات,  قلبت أوراقي كي أقتل الوقت وشردت قليلا متذكرا قصة حدثت لأحد الأصدقاء  منذ 12 سنة مضت كانت بطلتها الجلنار زهرة الرمان ففي ليلة مقمرة تمنع الغزاة عن أطماعهم وتقيد العشاق عن الالتقاء بأحبابهم,  وصل الطفل الغريب إلى حشيفة بثياب خلقة وأقدام لا تعرف الأحذية,  بعد رحلة مضنية يستحيل أن يبلغ وصفها كاتب,  عانى الطفل كثيرا في مثواه الجديد من برودة المناخ ووخز آلاته الحادة لا سيما وهو لا يعرف معنى الملابس الشتوية ولا تخطر له حتى على بال فضلا عن ضعف جسمه وخفة وزنه.. لكنه مع انتقاله من أهله الاصليين إلى أهل افتراضيين إلا أنه لم يعان من برودة الاغتراب أو من وخز آلات الوحدة التي تتمثل في الشعور بالعزلة وسوء المعاملة.. كانت الجلنار فتاة العشرين سيدة البيت الاولى وصاحبة الصوت الاقوى من بين العائلة ولعل اسمها كاف للوشاية بما هي عليه من جمال أو لم تقل العرب: " كاد المسمي أن يخلق " !! حظي الطفل الغريب بشيء من دفىء حضنها وآخر من سلسبيل حنانها الامر الذي هو بأمس الحاجة إليه.. كان الغريب عادة ما يمكث مستلقيا على  سطح المنزل الذي يتكون من ثلاثة طوابق لا سيما في ليالي الصيف المقمرة فتأتي الجلنار إليه وتسرد عليه بعض القصص مثل شجرة الحنا وبنت السلطان وبنت الغابة وغيرها..... وكأن الجلنار تقرأ في خلوة غريب شيئا من هم فراق الاهل والشعور بقسوة الاغتراب فتحاول بسرد تلك القصص إخراج الغريب من أجواء قسوة الفراق وكآبة الاغتراب ... كان الغريب يرافق الجلنار حيث تذهب وفي الوقت الذي  تطحن الحبوب وتغسل الملابس وتطبخ الطعام هو يرقبها بعيني الطفل المحروم من حنان أمه ، رسم لها أجمل الصور في قلبه ، مكث في منزل عائلتها خمس سنوات للدراسة ، كانت تهتم به وبغسل ملابسه وإطعامه الطعام ، كبر في منزلها خمس سنوات بعيدا عن دفىء العائلة ولكن كانت مخيلته ترسم له أن دفىء الجلنار كان يكفي.. أكمل الغريب دراسة الصف الخامس الابتدائي وكان لابد من تقديم أوراقه لامتحان الصف السادس ، لم يكن يمتلك درهما واحدا يومها ، هرع إلى جلنار كي يشكو لها همه فقالت له بقسوة :اذهب إلى مدينة أخرى للعمل ففعل احتراما وإكبارا للجلنار ..مكث الغريب بعيدا عن زهرة الرمان خمسة أشهر وبعدها حصل على مال وامتحن وتفوق كعادته ..لملم كل متعلقاته من بيت عائلة الجلنار شكرهم وودعهم وقلبه ينفطر ألما لفراقهم فقد أكرموه وكان لهم فضل عليه لإنجاز دراسته الابتدائية ... غادر إلى بلدة  أخرى ومرت السنون ومر الغريب بظروف صعبة تنهك قوى اي رجل إلا هذا الغريب الذي ظل متماسكا عصيا عن الكسر ، أكمل دراسته الجامعية ووجد وظيفة ، بدأ يفكر في الدراسات العليا فنفسه تتوق إلى الدراسة والعلا مرت الايام وانقضى مايقارب العشرين عاما بعيدا عن الجلنار ، يتذكرها أحيانا ولكن  على استحياء من الزمن ، ترى ماهي أخبار جلنار !!! ..يأتي شتاء العام 2008 م ليسافر إلى مشرفه العلمي لأطروحة الدكتوراه ، كانت الطريق إليه تمر بالقرب من قرية  الجلنار ،  قرر أن يذهب إلى بيت الجلنار ليطمئن عليهم ...وكأن حال الغريب يسأل : ترى هل سأجدهم ؟       أما زالوا هنا ؟  أم أن الزمان قد أكل على أطلالهم  وشرب !!! كل هذا وأكثر كان يدور بخلد الغريب  اقترب شيئا فشيئا ..قرع الباب مرة واثنتين  وأخيرا سمع إحداهن تقول : من الطارق ؟  قال:  أنا الغريب.. قالت : من الغريب !!! قال : افتحي يا جلنار ـ فقد ميز صوتها رغم مامر من  السنين الطوال ـ فتحت الباب ونظرت إليه باستغراب وكأنها تراه لأول مرة,  أخذت تحدق فيه  وبتفاصيل وجهه حتى تذكرته فقالت :  لقد كبرت كثيرا أيها الغريب وابيض  شعرك .... تفضل على الرحب والسعة فأنت بين أهلك وفي منزلك  ...أما الغريب فقد كان يسبح في  هول المفاجأة  عندما رأى الجلنار وكأن الزمن قد توقف عندها إذ لم تتغير ملامحها إلا قليلا مع  أنها تكبره بكثير من السنين ...  تبادلا أطراف الحديث سألها عن كل شيء صغير وكبير فعلم أن والدها قد رحل إلى دار البقاء  وبقيت هي ووالدتها فقط في المنزل بعد أن تزوجت أخواتها فغادرن منزل العائلة وكذلك أخوانها بعد أن تزوجوا واستوطنوا المدن مع زوجاتهن ، أما هي فقد تزوجت وانفصلت عن زوجها ثم بقيت في منزل العائلة وكأنها كانت على موعد آخر لاستقبال الغريب ، مرت تلك الليلة وهو  يتحدث معها ومع والدتها ذهب للنوم وكان الجو باردا جدا جعله يتذكر ليالي طفولته في المكان نفسه ولكنه في زمن غير الزمان ... أفاق باكرا ، سلم على الجلنار ووالدتها مودعا إياهن ...كرر الزيارة عدة مرات ثم فكر كيف له أن يسعد الجلنار وقد كان لها كثير من الفضل عليه في طفولته ، ظل الغريب يتقلب في سريره حتى راودته فكرة الزواج بجلنار  ردا لجميلها وجميل عائلتها  عليه.. عقد العزم للذهاب مرة أخرى إلى المحافظة التي تقطنها الجلنار تردد كثيرا في عرض الأمر عليها ولكنه استجمع قواه وقرر أن يتحدث فمن واجبه رد الجميل ـ هكذا ظن ـ حدثها بمنتهى الصراحة وأنه يريد أن  يعوضها عما فاتها من العمر ، ترددت وقالت له: ولكني أكبرك بسنوات كثيرة !! قال لها :أنا لا أراك كذلك ..  وافقت جلنار وكذا والدتها.. فرح كثيرا فهو يريد أن يرد شيئا على الأقل مما قدمته له  هذه العائلة فقد جبلت نفسه  على مكارم الاخلاق   ......  اتفقا على كل شيء بدأت التحضيرات أخبرته أن يمهرها مقدارا معينا من المال ، كان في حينها ذا قيمة كبيرة ..طلب منها مهلة ليسافر لإحضار المهر من المحافظة التي يقطنها ، لم يهتم للمسافة البعيدة بين المحافظتين ولا للبرد القارس الذي يتسلل الى عظامه كل مايهمه هو أن يفي بوعده تجاه هذه العائلة الفاضلة ...مكث أسبوعا لتدبير المهر وعاد مسرعا في  ليلة العشرين من ديسمبر وصل مهرولا.. جلنار!! ..جلنار!!! هذا هو مهرك أيتها الزهرة الحمراء  ...نظرت للمال بازدراء فرمته على يمينها وقالت هذا لا يكفي أجرا  للخادمة التي تدق الطبل ليرقصن الفتيات يوم عقد القران ، وأخذت تقهقه بصوت عال ..تسمر الغريب وتساقط العرق من جبينه في ليلة قارسة البرودة ...وكأني بالغريب يقول بقلبه :لا لا جلنار لماذا فعلت هذا بي!!! ـ  فلسانه ماعاد ينطق ..صدمة مزقت قلبه وشرايينه  وكل جسده..خرج من بيتها وهو لا يعلم كيف سار حتى وصل إلى باب الخروج ومنه لمركبته التي ركبها وهو مشتت الفكر وممزق  الفؤاد ..أهكذا يفعل بمن يريد ان يعمل المعروف!! ! اهكذا ياجلنار يامن رسم لك الغريب في  طفولته أجمل صورة رغم قساوتك عندما طلبت منه الذهاب لمدينة اخرى للعمل كي  يجني المال وهو لما  يبلغ الحادية عشرة من عمره !!! وظل على هذا الحال حتى وصل داره وهو محطم القلب ممزق الفؤاد من أناس أضمر لهم كل الحب والوفاء والتقدير أراد لهم الخير والسلام والعيش بحب ...ستظل الجلنار ذكرى مؤلمة في قلب الغريب  ..رحل عنها وعن مدينتها تماما وقبل عام ذهب مع أحد الأصدقاء إلى مدينتها ومر قريبا من الديار فشعر بشيء من الغصة في قلبه ..ستظل تلك الغصة في قلب غريب الجلنار إلى ماشاء الله وسيظل يتذكر المثل الشعبي  : " أراد أن يكحلها فأعماها "   .........