الإشاعات والمجتمعات المتخلفة ....

كنت وأنا طالب في الثانوية العامة أسمع مدرس مادة علم الاجتماع يكرر القول في أكثر من حصة : إن الدعاية ونشر الأكاذيب واستهداف الشرفاء تجد بيئتها الخصبة في المجتمعات المتخلفة . الأمر الذي جعل زميلي عبد الصمد يصر على اختبار تلك المقولة في مجتمعنا ، فأثار فضولي ذلك الإصرار ، مادفعني إلى السؤال ... وما الذي ستفيده إذا ماقمت بفعل التجربة يا عبد الصمد ؟ سأعرف يازميلي ما إذا كان مجتمعنا يقع في دائرة المجتمعات المتخلفة أم لا  !!! أهااااه إن كان الأمر كذلك فلا بأس ياعبد الصمد ، قام الأخير على الفور باصطحابي إلى مقهى مجاور ، ثم طلبنا كأسين من الشاي وإذا بزميلي قد انصرف إلى أحد الزبائن بجانبه ، وسأله أولم تسمع بآخر خبر في حاضرتنا ؟ افتتحت شهية الرجل في الحال فأقبل نحو عبد الصمد مستعجلا سماع الجديد ، كلا ولكن قل لي بربك ماذا سمعت ؟ لقد صرح القائد الأعلى للحاضرة قائلا : امهلوني أيها المواطنون الكرام 72 ساعة وسأجعل من عاصمتنا  عاصمة مضاءة بالكهرباء ليل نهار بل وتنسون زمن الانقطاعات كليا ... هلل الرجل وكبر ثم قال : لله در هذا القائد كم هو عظيم !!! مرت تلك الليلة ولم نصبح إلا والخبر قد انتشر في المجتمع كانتشار النار في الهشيم ، التقينا أنا وزميلي عبد الصمد وإذا بمبسمه يلمع كوميض البرق من كثرة الضحك ، سألته ما الذي يضحكك ياصديقي ؟ قال:  إنه نجاح الاختبار ، فقد اكتشفت اليوم أن مجتمعنا يأتي على رأس المجتمعات المتخلفة ....ولكن كيف ياعبد الصمد ؟ قد أخبرني كل من قابلتهم اليوم أن هناك مصدرا موثوقا قد نقل عن القائد الأعلى للحاضرة أن الكهرباء لم ولن تنقطع بعد اليوم أبدا .  ومع أنني لم أول  مقولة المدرس الاهتمام الكافي يومها إلا أنها بقيت مخزونة في الذاكرة إلى زمن غير بعيد ، ولكن تحت مفهوم يجانب الصواب  فيما يبدو إذ كنت أعتقد أن التخلف هو جهل المجتمع للقراءة والكتابة ، وكذلك الحفاظ على الهوية الدينية ظننته ضربا من التخلف ، وأن تزرع أرضك وتفترش ترابها وتستنشق عبيرها الذي تنبثق منه روائح عطرة لاسيما عند فلاحة الحقل بالمحراث أو ملامسة الزراعة في الصباح الباكر وهي ترشح بقطرات الندى أيضا ضربا من ضروب التخلف ، ولم أقف عند هذا وحسب بل كنت أنظر لمن يرعى الماشية أو يحافظ على الأعراف والتقاليد والتراث إنما هم من عناصر ذلك المجتمع المتخلف ....... غير أنني بعد أن تجاوزت سن الوحي أدركت أنني لم أكن على صواب في رؤيتي العتيقة للمجتمع المتخلف الذي يفتقر إلى أدنى مقومات المناعة لحماية نفسه من داء انتشار الدعاية والأكاذيب والأوهام وتشويه الحقائق ؛ لأنني علمت يقينا تعريف المجتمع المتخلف . ولعل القارئ قد أصبح في شوق لمعرفة المجتمع المتخلف ...  فالحقيقة التي وصلت إليها ، هي أن التخلف يعني : عدم قراءة المجتمع للواقع كما ينبغي .......... ومن الأمور التي تثبت أنني كنت مخطئا في قراءتي للمجتمعات المتخلفة في الزمن الغابر أنك تجد الأمم والشعوب المتقدمة هي الأكثر حرصا على زراعة الأرض ورعي الماشية والحفاظ على التراث الأمر الذي مكنهم من استعبادنا وتجويعنا والتحكم في أقواتنا فأصبحنا نستورد منهم حتى الألبان والأجبان والأقط فضلا عن القمح والملابس والأحذية وكل مانحتاجه للحياة ....أما نحن فمازلنا نعد التقدم هو التخلي عن الهوية الدينية والجغرافية وترك الزراعة ورعي الماشية والتخلي عن التراث وعدم الامتثال للمرجعيات إذ وصل بنا الحال في تصديق الاشاعات واللهث وراء السراب إلى ماوصل به  أشعب حين مر على حماره في المدينة فتبعه جيش من الفتية يقذفونه وحماره بالحجارة من كل جانب فصرخ في الفتية بصوت عال هلموا إلي ولما اقتربوا منه قال لهم : لماذا لاتذهبوا إلى الوليمة التي سيقيمها اليوم فلان ؟ فردوا عليه أحقا هناك اليوم وليمة ؟ قال : أجل .....ولما انصرف الفتية يتسابقون باتجاه الوليمة المزعومة ، عاد أشعب يفكر ويقول لعل هناك وليمة حقا فلماذا لا أذهب وراءهم وأظفر بوجبة دسمة من الثريد اللذيذ  ، ونسي أنه إنما اخترع تلك الكذبة ليصرف عنه وعن حماره أذى الأطفال فقط . ولا أظن أن حالنا اليوم ببعيد عن ذلك إذ أدركت أن الإشاعات والمجتمعات المتخلفة متلازمان ولا ينفكان ابدا ، فعندما توجد الإشاعة يوجد المجتمع المتخلف والعكس صحيح ......