من يدق تلك الذرى …..؟!!! ذات عدن …. ذات زمن ( اضافة 3 ) 20 ساعة مضت مقالات محمد عمر بحاح ..  صوت عدن / خاص .. لم تبارح ذاكرتي قط .. منذ رأيتها لأول مرة . . حين أخذني أبي لزيارتها في كريتر ذات عصرية عدنية وكنت في العاشرة من عمري تقريبا . ثم صارت عادة أحرص عليها كلما جئت عدن وسنحت لي الفرصة .. من بين معالم المدينة .. سور عدن ، قلعة صيرة ، جامع العيدروس ، مسبح حقات ، ابو الوادي ، دور السينما ، الزعفران ، وأسواقها الشهيرة ، لها مكانة خاصة في نفسي . تذكرني دائما بالتاريخ مهما ابتعد تحسه قريبا. . بلحمه،ودمه ،وتفاصيله ، وتضاريسه . بالإنسان وقدرته على تسخير و تطويع الطبيعة لصالحه. تدهشني في كل مرة ازورها .. لكن ليس كدهشة المرة الأولى .. المرة الأولى دائما لها سحرها ، في النفس والروح ، تنفذ الى الداخل ، وتستقر في الذاكرة . بعد سنوات من الغياب ذهبت لرؤيتها ، لم اذهب وحدي . أخذت معي صغرى بناتي عبير ، وكانت لاتزال في الثانوية ، وسبطي عبد الرحمن في الثالثة من عمره .. وكأني أسحب معي طفولتي . قلت في نفسي : يجب أن أريهما جزءا ثمينا من تاريخ عدن كما أراني إياه أبي ، فتعلق في ذاكرتهما مثلما علقت في ذاكرتي منذ ذلك التاريخ البعيد .. أي منذ نصف قرن تقريبا . نظرة الانبهار ، الدهشة ، والشعور بجلال وعظمة المكان ، أحسست بها في وجه ، عيون ، فرح عبير .. تماما كما فعلت في أول مرة رأيتها . كانت تدرك قيمة الأثر التاريخي والحضاري حيث كنا نقف ، وتعيش بكل كيانها روعة اللحظة ، وكان عندها فكرة ما لإنها درست عنه في المدرسة ، وربما سمعت به من بعض زميلاتها اللائي زرنه… لكن لم تكن تتصوره بكل تلك الضخامة كما قالت لي . اما عبدالرحمن فقد كان يجري هنا وهناك ، غير شاعر بشيء سوى فسحة المكان ، وجعلني وخالته نركض وراءه خوف أن يقع في صهريج من تلك الصهاريج الضخمة غير عابىء بقلقنا وفزعنا ! عندما أحضرني أبي أول مرة الى الصهاريج في بداية ستينيات القرن العشرين الماضي ، كان المكان يعج بالزوار المذهولين ، صغارا ، كبارا ، رجالا ، ، ونساء ومن كل الأجناس الذين كانت تزخر بهم عدن في ذلك الزمن .. وعدن في تلك الأيام كانت تضم خليطا من السكان العرب ، الهنود ، الفرس ، الانجليز ، الصومال ، و اليهود وجنسيات اخرى . وكانت روائح عرقهم وعطرهم لاصقة في الجدران والصخور .. وعند المدخل كشك صغير يبيع ( بطاقات بريدية مصورة ) باللغتين العربية والانجليزية تحمل بورتريهات مختلفة للصهاريج ، وصور لبعض معالم عدن الشهيرة ، وكان الزائر يشتريها ، فيرسلها الى بلاده إن كان سائحا أوغريبا عن عدن ، أويحتقظ بها للذكرى إن كان من أبناء المدينة أو من المقيمين فيها . الوضع كان مختلفا هذه المرة عن المرة الأولى ، وعن مرات أخرى زرت فيها الصهاريج .. تقريبا لم يكن ثمة زائرين ، ماعدا امرأة تصحب طفلتها الصغيرة لتريها شئيا من عظمة الماضي وعبق الأجداد !! وإمرأة وحيدة ربما هربت من ضجر البيت ونق الجيران .. الكشك الذي كان يسوق البطاقات البريدية المصورة لم يعد له وجود .. وان كان يوجد كشك يبيع تذاكر الدخول لزوار لم يعد يأتون ، أو انهم يأتون بقلة ! وتلك الغربان التي لاتكف عن النعيق : قاق .. قاق .. قاق …… ! شعرت بحسرة وغصة تخنقني ، عندما رأيت مبنى مكعبا من البردين بني حذيثا على مايبدو فوق احد الممرات كاسرا ومشوها هيبة المكان وتاريخيته وعبقريته .. ولم أعرف لماذا أنشيء ، ولأي غرض ؟ وأين كانت وزارة الثقافة المسؤولة عن هذا الأثر النادر والحفاظ عليه ؟ وإن كانت هي التي بنته فالمصيبة أعظم ! وطبعا لم أعرف بماذا أرد على إبنتي سوى أن أخجل نيابة عن أولئك وأن أعتذر عنهم للتاريخ ، والماضي ، وأجدادنا العظماء الذين بنوه !! أحقاً هي نفس الصهاريج التي كنت ازورها في الطويلة ؟! هي .. هي .. لكن كان ثمة شيء مختلف .. لازالت رابضة في حضن الجبل ، تتدرج من الأعلى الى الأسفل بنفس نظامها الهندسي البديع .. لكن لم يكن فيها روح .. بدت موحشة ، وبدون حياة تقريبا .. ومن قعر ما أقتلعت شجرة ضخمة وتمددت تعبة فوق احد الأسوار ، لكن أوراقها كانت لاتزال خضراء …ترفض الموت ! لعل الصهاريج من بين كل الشواهد الحضارية والتاريخية ، في عدن أكثرها صمودا وقدرة على البقاء ، خاصة مع تعرض العديد منها للإهمال ، الطمس .الهدم ، البعض بدواعي التطوير مثلما حدث لباب عدن – العقبة .. ولطواحين الهواء عند تطوير المملاح .. والبعض لعوادي الزمن مثلما هو حال سور عدن ، والبعض مع سبق الإصرار والتعمد كمسجد أبان أقدم مساجد عدن ، ومسجد الهاشمي في الشيخ عثمان .. أو مسجد البهرة في طريق العيدروس في كريتر، اومعبد ومقبرة الفرس في جبل الطويلة … ثمة من يحاول أن يطمس كل تاريخ ويمحو كل أثر لعدن ، وليس فقط قوانينها ، ونظامها ، وحياتها المدنية ، وتنوعها الثقافي .. في حضرة الصهاريج . حضرني عبد الله محيرز ، ذلك المؤرخ العالم ، بقامته الربعة ، وجهه المدور ، ابتسامته الرائعة ، نظارته السميكة ، حبه العميق لمدينته عدن .. وغوصه في اعماق التاريخ ، يستخرج منه اللآليء والأصداف ، مستغرقا في احضار الأماكن ، التفاصيل ، الشخوص ، في ثلاثيته عن عدن : الصهاريج ، قلعة صيرة ، و منارة عدن ..ليوثق جزءامهما من تاريخ عدن ، وهي معالم تاريخية استطاعت المدينة أن تحافظ عليها وسط ماشهدته من توسع وتحديث ، ومامرت به من كوارث وحروب وقلاقل لعل أسوأها خلال الثلاثين السنة الأخيرة !! عندما تقرأ ( الصهاريج ) .. يغادرك أي شعور سابق انها مجرد جبل ، صخر ، حجارة ، خزانات مياه ضخمة ، وتنتصب أمامك حياة كاملة ، البشر الذين شادوها في الصخر الصلد ، والبشر الذين وضعوا هندستها المحكمة ، والبشر الذين عاشوا في المدينة . الأحياء ، القنوات ، الأشجار ، الأرواح الشفيفة التي أعطاها ماء الصهاريج الحياة ، فأعطت المدينة الروح ، والعبق، والعمل ، والذكريات ، ، وأزهار الكستناء ، والشجر . الصهاريج ليست حجر .. الصهاريج بشر انه الزمن يسيل من بين عروق الصخر .. ونسمة عبير تمر .. انه الماء سر الإله… في وادي الطويل.
سفير متقاعد