لم يدر جلساء الخليفة هارون الرشيد؛ أن المرأة البرمكية التي دخلت عليه في المجلس وتحدثت معه ثم دعت، كانت في الحقيقة تدعو على الرشيد بالعمى والموت ودخول النار، بعدما قتل وسجن البرامكة وصادر أموالهم، أما كيف خدعت جلساء الرشيد، وكيف علم هو بمقصدها، فتلك قصة ذكاء الخليفة وبلاغته اللغوية.
تقول الحكاية:
دخلت امرأة على الخليفة هارون الرشيد؛ وعنده جماعة من وجوه أصحابه، فقالت المرأة: يا أمير المؤمنين، أقرّ الله عينيك، وفرّحك بما أتاك، وأتمّ سعدك، لقد حكمت فقسطت، زادك الله رفعة.
فقال لها الرشيد: مَن تكونين أيتها المرأة؟
قالت: من آل برمك، ممن قتلت رجلهم، وأخذت أموالهم، وسلبت نوالهم.
فقال الرشيد: أتدرون ما قالت هذه المرأة؟
فقالوا: ما نراها قالت إلا خيراً.
قال: ما أظنكم فهمتم ذلك .. أما قولها: أقرّ الله عينيك، أيّ أسكنها من الحركة، وإذا سكنت العين عن الحركة عُميت.
وأما قولها: وفرحك بما أتاك، فأخذته من قوله تعالى: " حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً" (سورة الأنعام: 44).
وأما قولها: وأتمّ الله سعدك، فأخذته من قول الشاعر:
"إذا تم أمر بدا نقصه .. ترقب زوالا إذا قيل تم".
وأما قولها: لقد حكمت فقسطت، فأخذته من قوله تعالى " وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا" (سورة الجن: 15).
وأما قولها: زادك الله رفعة، أرادت به قول الشاعر:
"ما طار طير وارتفع .. إلا كما طار وقع".
فتعجب الحاضرون من ذلك، وأثنوا على فصاحته، ثم التفت هارون الرشيد؛ إلى المرأة،
وقال لها: ما حملك على هذا الكلام؟
فقالت: إنك قتلت أهلي وقومي.
فقال: ومَن أهلك وقومك؟
قالت: البرامكة.
فأراد أن يجزيها ببعض العطايا، فلم ترضَ وذهبت لحال سبيلها.
فراسة وذكاء لغوي
الواقعة أثبتت مدى فراسة الرشيد وامتلاكه ناصية اللغة، وذكائه الشديد في فهم مقصد المرأة البرمكية ومطلبها ولزومه الحذر معها، وإيجازه في الرد عليها، وفي النهاية اكتفى بإعادة ما تمّت مصادرته من أموال أبنائها دون الدخول في تفاصيل أكثر معها.
نكبة البرامكة
لما تولى هارون الرشيد؛ الخلافة أسند إلى يحيى البرمكي إدارة شؤون البلاد، وهو ما قام به يحيى على أكمل وجه حتى إن ولديه الفضل وجعفر عملا معه بالإدارة لما تميّزا من مهارة ودقة، بعد ذلك ولّى الرشيد؛ جعفر البرمكي؛ إدارة أقاليم الجزيرة والشام ومصر وإفريقية، وكان جعفر محبوباً من الخليفة، فأبقى عليه ببغداد حتى يكون مستشار الرشيد؛ ما ساعد على نمو نفوذ جعفر وسلطته في الدولة.
وكثرت الدسائس بين الخليفة والبرامكة، وشعر الرشيد بأن البرامكة شاركوه في سلطانه بشكلٍ يخل بسلامة وأمن الدولة مما اضطره إلى التخلص منهم، وكل مَن له صلة بهم، فعاقبهم وأودعهم السجون وصادر جميع أموالهم، حتى الشعراء أصدر الرشيد؛ أمراً لهم بعدم رثاء البرامكة، حتى إن يحيى وابنه الفضل توفيا في السجن قبل وفاة الرشيد، وبعد ذلك بمدة عفا عَمّن تبقى منهم الأمين بن هارون الرشيد؛ لتنتهي بذلك قصة البرامكة والصراع على الحكم المتوهم، مع الكثير من الأخبار الكاذبة؛ الأمر الذي جعل الخليفة هارون الرشيد؛ يزج بأعز أصحابه في السجون.