حكايتي مع البحر… رحلة في زمن الانكسار والنجاة

حين تهمس لك رياح البحر بأسرار الماضين مع أقدارهم تدرك أن للماء ذاكرة لا تنسى، وأن البحر وإن بدا صامتًا يخبئ في عمقه أناشيد البكاء والرجاء. وحكايتي مع البحر ليست نزهة على الشاطئ بل هي فصل من فصول الحياة حين تدفع إلى الموج لأن اليابسة لم تعد آمنة، ولأن الخلاص لا يأتي إلا من طريقٍ محفوفٍ بالموت. الفصل الأول: ليل الحرب… وأصوات المطبعة كانت عدن عام 1994 مدينة تتنفس على وقع المدافع، وتستيقظ على دخان المعارك. وكنت يومها شابًا يتقد بالحماس الوطني أعمل محررًا في صحيفة الراية ضمن فريقٍ إعلامي انذر نفسه للدفاع عن الكلمة في وجه الرصاص. كنا نؤمن أن الصحافة يمكن أن تكون بندقية الوعي وأن الكلمة الصادقة قد تحدث ما لا تفعله الدبابة. من دوفس إلى صبر ومن صلاح الدين إلى بير النعامه وعمران، كنا نرافق الجنود نسجّل، نكتب، ونُوزّع في الصباح الصحيفة بين المقاتلين. كانت الراية رسالة وفاءٍ وسلاحًا من نوعٍ آخر. تحت ضوء المطابع المترنّح، وهدير الماكينات حتى الفجر، تشكّل ذلك الفريق الذي بقي في الذاكرة: العميد يحيى عبدالله، عيدروس باحشوان، عبداللطيف عبدالله، علي قاسم عاطف، علي منصور، محمد عباس ناجي، محمد سعد الزغير، فريد محسن، والراحلان عبدالمجيد عبدالله وأحمد المقشطة، وسمير مقبل، وعدنان حمزة، ومدين مقباس، ومنصور صالح، وأديب الشاطري، وأحمد منصر، وقاسم علي واحمد علي ومحمد مقبل ومن المطبعة خيران وعلي ثابت ومصورونا عادل مقطري والراحلون إبراهيم باريوم وصلاح عبدالكريم وصلاح سالم، وغيرهم من الرفاق الذين سطروا بالمداد والعرق ما يوازي دماء المقاتلين في الجبهات. الفصل الثاني: الهروب عبر الموج لكن للحروب سُنّتها القاسية حين تختل موازين القوة لا يبقى أمامك سوى طريقين الأسر أو البحر. رغم انكسار هذه القاعده احياناً ومع سقوط عدن، بات البحر خلاصنا الأخير. في ليلةٍ لا قمر فيها، تسرّبنا إلى مرسى صيرة في كريتر، حيث قارب صيدٍ صغيرٍ ينتظرنا كقشةٍ في عاصفة. أكثر من عشرين نفسًا اعتلت ذلك القارب المتهالك، لا يحملنا سوى الخوف والإيمان. أبحرنا في الظلام، تائهين بين السماء والماء، لا نعرف إن كانت الأمواج ستقودنا إلى نجاةٍ أم إلى القاع. كانت رائحة الملح تمتزج بمرارة الأنكسار وصوت المحرك الخافت أشبه بصلاةٍ في بحرٍ غاضب. وحين بزغ الفجر، وجدنا أنفسنا بين شُقرة وزنجبار، بين أذرع صيادين من أبناء البادية، استقبلونا بخبزٍ وماءٍ ودفءٍ إنسانيٍّ لا يُنسى. نصحونا أن نتخلّص من السلاح البسيط الذي نحمله، فبعناه بثمنٍ بخس، وكأننا نبيع ما تبقى من كرامتنا، لنواصل المسير نحو الديار سيرًا على الأقدام. حينها أدركت درسي الأول مع البحر أن النجاة لا تعني دائمًا النصر، وأن الخروج حيًا من المعركة لا يعني أنك خرجت بكامل روحك. الفصل الثالث: البحر يعود في زمنٍ آخر مرّت السنوات، وتغيّرت الوجوه، لكن البحر ظل هناك، يترصّد موعدًا جديدًا للقاء. في عام 2015، عاد الغزو إلى عدن، هذه المرة بثوبٍ آخر، يحمل شعارًا مختلفًا، لكنه يحمل خراب وطمس هويه فصل لايقارن مع 94 الذي عدنا بعدها مع روح العفو والتسامح بفضل قيادة حكيمه تصدرت المشهد آنذاك . وفي خضم غزو الحوثي لعدن كنت أتابع المشهد من جديد المدينة تُقصف، المنافذ تُغلق، والناس بين النزوح والموت. وفي لحظة قرار، وجدت نفسي أمام البحر مرة أخرى. لكنها لم تكن رحلة قاربٍ مهترئ، بل يخت بحري أكثر تجهيزًا، أقلع من ميناء الزيت بالبريقة نحو جيبوتي. كانت الرحلة مغامرةً مع المجهول، امتزج فيها الخوف بالأمل، وذكريات ماضيه تطلّ من بين الموج كأشباح الماضي. كل موجة كانت تذكّرنا بأن البحر لا يعد بشيء، وأن النجاة ليست سوى منحةٍ مؤقتة. وحين وصلنا إلى جيبوتي، ظننا أننا وصلنا إلى برّ الأمان، لكن الغربة كانت أقسى من البحر نفسه. خمسون يومًا من الانتظار، نتابع الأخبار من عدن بقلوبٍ معلّقة، نعيش الخذلان السياسي وتناقضات المواقف، ونشهد وطنًا يثخن جراحه ومصير غامض لما قد يحدث غداً الفصل الرابع: العودة إلى عدن… النصر والوفاء لكن كما علّمني البحر، لا بدّ أن يشرق الفجر بعد العتمة. فبعد شهورٍ من الصبر والقتال والمقاومة الباسلة عاد الأمل. عدنا إلى عدن لا كلاجئين، بل كعائدين إلى بيتنا الكبير. عدنا نحمل بين أضلعنا وهج الانتصار، وفي قلوبنا قسم الوفاء لمن رحلوا في الطريق. عدنا لنرتّب الصفوف، لنُعيد للراية يدها، وللكلمة سلاحها. ذلك المشهد سيظل خالدًا في الذاكرة بكل شخوصه ورموزه عدن التي استُعيدت لا بقوة الحديد فقط، بل بقوة الإيمان، والذين حملوا السلاح والكلمة معًا ليعيدوا للوطن اسمه ومكانه. الفصل الأخير: البحر… مرآة الذاكرة حين أنظر اليوم إلى البحر، أراه شاهدًا على كل ما مضى. البحر الذي حملني مرتين مرةً من عدن إلى المنفى، ومرةً من المنفى إلى عدن. علّمني أن الهزيمة لا تُكتب حين تخسر معركة، بل حين تتخلى عن الإيمان. وعلّمني أن النجاة لا تأتي إلا لمن ظل مخلصًا لما يؤمن به، حتى وإن تبدّل كل شيء من حوله. وهذه الفصول، وهذه الأسماء، وتلك الليالي، ستكون بإذن الله جزءًا من كتابي القادم «خريف اليمن: خفايا وأسرار»، لتُروى كما كانت، لا كما أرادها المزوّرون أن تُروى… رواية إنسانٍ عاش بين الموج والنار، بين الوطن والمنفى، وعاد ليكتب حكايته مع البحر، حكايته مع الحياة. وهذه الذكريات ليست فقط من باب التوثيق، ولا من باب الحنين إلى زمنٍ مرّ… بل من باب المسؤولية تجاه التاريخ. عشت في قلب الدولة، رأيت الصراعات، والمؤامرات، والانتصارات الصغيرة، والانكسارات الكبيرة. لكنّي أؤمن أن ما سوف أدونه في كتابي هو جزء من الحقيقة… وجزء من الذاكرة الوطنية التي لا يجب أن تُنسى.