الطوفان بوح سيري يقتطفه سالمين من أنين ذاكرته

الغربي عمران

    في إصدارٍ نثري صنف على غلافها بـ رواية.. تمنيت بعد قراءته لو أنه صنف كرواية سيرية.. كونه أتكأ على شيء من سيرته.. مع شيء من التخييل المشوق.. الاصدار أنين صارخ لما حدث.. الطوفان جاء في 129 صفحة.. وزعت على عدة عناوين فرعية.

    الشاعر المجيد يكتب هنا عدن بمداد قلب عاشق.. يقدمها كم نحب أن نقرأها.. ونقرأ سيرة مدينة مجني عليها.. إدانة من تعاقبوا على مدينة أوصلها الاحتلال إلى مصاف المدن العالمية.. بقوانين أفسحت المجال للمال أن يتنفس.. وللحريات أن تزهو لتتفتح مدينة إنسانية .. وقبلة للتحضر والجمال.

    يتذكر بنبض قلبه أحداثا دموية حولت تلك المدنية إلى كائن قروي مشوه بعفن الجهوية والمانطقية.. ثم كما يصف الكاتب الطوفان الذي أتى على ما تبقى من رمق.. طوفان الجبال العالية.. ما زجا بين جميلة زميلة دراسة الفلسفة تلك الشخصية التي لا يستطيع القارئ التفريق بينها وبين المدينة "فهي هدف دائم الحركة تصعب اصابته.. سحر عالمي كما هو سحر مدينة عدن .. خلاسية عن بعد.. انسانة خلابة مثل اي منظر طبيعي خلاب. اب يمني وام افريقية قديمة ربما جدتها... مسحة الجمال العابر للقارات" هكذا يصف الكاتب فتاة عدنية كانت محط أنظار طلاب الكلية.. فلا يستطيع المتلقي التفريق بين "جميلة" الفتاة و"عدن" المدينة. مستعرضا المدينة بعد الاستقلال.. وتشكيل النام عام 1975من ثلاث تيارات سياسية حزب الطليعة "بعث" واتحاد الشعب "ماركسي" وتنظيم الجبهة القومية. تحت مسمى التنظيم السياسي الموحد. إلى تغير الاسم عام 1987 بـ" الحزب الاشتراكي اليمني" . لم يكن الكاتب راض على "لاصوت يعلوا فوق صوت الحزب". ناقدا تلك الممرسات الإقصائية.. والقمعية التي أوصلت عدن إلى ما وصلت إليه من تكميم الأفواه.. وتردي اقتصادي.. أنتهى إلى صدام مناطقي بين أجنحة الحزب.. ثم ضياع كل شيء... أسماء كان لها حضور في حياة السارد وليد.. منها: منصور.. قاسم.. عبد الواحد.. مرشد.. بدر.. محمد.. جمال.. شذى.. عم سعد.. توفيق.. رشدي.. بهجة.. نور الدين.. جميلة... زملاء وزميلات الدراسة الجامعية.. أساتذة جامعيون.. وكانت البداية في كلية الفلسفة والعلوم الاجتماعية.. جو دراسي مفعم بالأمل. من بين تلك الشخصيات برزت جميلة بتميز لافت.. أناقة وحسن لافت.. وتعامل راق. منذ الصفحة الأولى كانت ظاهرة وكائن مختلف.. وكانت نجمة تدور حولها الكواكب "جميلة في الروح والجسد والنفس.. امتداد لروح العصر ولروح المرأة العدنية" يمزج الكاتب ين تلك الأحداث العصفة التي توالت على المدينة.. ما أنعكس على أوضاع الطلاب الذين كانوا يتشكلون في مجموعات تتسع وتضيق يوما بعد يوم.. من خلال احتفالاتهم ورحلاتهم وانشطتهم "غير ان جميلة تلك الكائن التفاعلية لم تكن ضمن حدود مجموعة.. فهي موجودة في كل الجماعات..." وهكذا يتحدث السارد عن مدينته التي أحبتهم وأحبوها.. لتستحوذ جميلة على مساحة واسعة من سرد تلك الأحداث وأثرها عليها.. وكأن الكاتب بوصفه لأحوال جميلة يصف اوضاع المدينة "جميلة كانت على مستوى الشكل والجمال.. أنثى فارهة.. علما في إناث.. مراهقة نضجت للتو لم تبرح طفولتها بعد.. حتى تحولت الى امرأة و(مكثرة).. أي امرأة مبالغ في انوثتها". جميلة فتية تنشد الحرية.. تأمل السلام. وهكذا يتعرف القارئ على عدن من خلال جميلة وتلك المجموعات من الطلاب.. وأثر تقلبات الأيام عليهم... حتى يبدأ كل منهم بشق طريقه بعد التخرج. جميلة تبتعث إلى الاتحاد السوفيتي كحزبية طليعية لاستكمال دراستها.. والسارد يذهب وبقية زملائه للدريس في مدارس عدن والمدن المحيطة بها في أبين ولحج... لتعود جميلة في أحد إجازاتها "وإذا بي امام امرأة في منتهى الأناقة والجمال.. يفوح منها عطر مطارات اجنبية ورائحة انثى ناضجة ...". يصف السارد لحظات لقاه.. ثم الخروج بها باتجاه ساحل أبين محاولا فهمها والإحتفاء بعودتها.. يجلسان متجاوران بداخل عربة.. يتأمل وجهها.. فلقتي بمها الرماني "وجدتني ادوخ من طعم الرمان في فمي.. قبلة طويلة كأننا كنا نحاول تعريف القبلة!. لم نتوقف الا بعد ان أطل علينا برأسه أحد المتطفلين...". هنا تتداخل الإيحاءات.. حين يشير إلى عدن من خلال عودة جميلة بنضوج مختلف.. واقبالها على الحياة كامرأة ناضجة ومتحررة. وفي أول ليلة لها اصطحبها إلى شقة أحد الأصدقاء "نرقص على خلفية موسيقية هادئة.. لقد تسامى جمالها وتعالى بعد ان اضيفت اليه خبرة البلدان الاشتراكية.. حدثتني ونحن ملتصقين.. عن الرقص الهادئ واهميته في التمهيد لاستعداد الجسد للحظات الذهاب في غيبوبة اللذة.. وكأنها تقول إن الرقص أصبح شرطا مهما بالنسبة لها قبل أن تمارس الجنس.. أقول في داخلي إنها ليست عذرا اذا...". تودعه عائدة إلى موسكوا لمواصلة دراستها.. وخلال غيابها يتفتح وعي السارد على مباهج الحياة.. ويقع في حب فتاة "سعيدة".. التي كان يرى فيها رفيقة المستقبل.. يعيش موزعا نفسه بين العمل كمدرس.. والالتقاء بأصدقائه.. متحدثا عن باخرة اصطياد "مبروكة2" تابعة لشركة حكومية. توقفت عن رحلات الاصطياد.. وظل طاقمها وعمالها يداومون على متنها في عرض البحر.. يصطحبه أحد العاملين على صيانتها للاحتفال بليلة رأس السنة على متنها.. عارضا صورة من صور بداية الإنهاير.. "ونفس الوضع الذي اصاب المبروكة2اصاب الكثير من المعامل والتعاونيات والمشاريع بالإهمال... ولهذا كانت الحرب.. ". إذ يشير الكاتب إلى مؤشرات الانهيار.. مركزا على الجانب الإقتصادي. بظهور مؤشرات صراع بين أجنحة السلطة.. حتى "غربان يانظيرة" تلك المسرحية الساخرة التي تنتقد الاقتتال الحزبي الذي انفجر في يناير 1986 بين ما سمي بالطغمة والزمرة.. وكان الفرز للقتل والسحل بالبطاقة.. وما تعرضت له عدن من تدمير. وهنا تعود جميلة في نهاية عام 1986من موسكو في اجازة قصيرة.. "احسست أنها ليست جميلة التي يسبقها عطرها اينما ذهبت.. وليست جميلة التي تفرض شروطها على المكان الذي تتواجد فيه.. وليست جميلة التي زارتني في شتاء 1984". مستعرضا أحوال بعض زملاء الدراسة: منصور قتل في الحرب.. وغادر عبد الحميد وزارة الداخلية ليعمل في التلفزيون.. وانتقل بدر للتدريس في كلية خارج عدن.. وماتت شذى في ولادة متعسرة... وهكذا تتوه الآمال... إلا أن ما يلفت أن مجموعة الأسماء تلك التي كانت تتصف بالثورية في أفكارها بحكم دراسة الفلسفة.. وتلك القيم الثورية.. قد تزوج معظمهم بفتايات لم تكن ضمن دائرة الجامعة.. فأحدهم أقترن بريفية.. وأخر بفتاة رشحتها له أمه.. وتلك الزميلة تزوجت من أول شاب طرق باب بيتهم. وجميلة تزوجت بزميل لها من قطر عربي في موسكو. وكأن تلك الشعارات المبشرة بالتنوير والحرية والثورة مجرد دعاية شكلية لم تصل للعمق. رغم ذلك استمر الكاتب بالبحث عن جميلة بين سطور رحلته وكأنه يبحث فيها عن أمل "تمنيت في ذلك المهرجان حضور تلك العدنية الفاتنة جميلة التي افتقدها كثيرا على الرغم ان وفد اليمن الديمقراطي كان من اكبر الوفود عددا" كان ذلك الحديث حول مشاركة الكاتب ضمن مؤتمر لشباب العالم في العاصمة الكورية الشمالية. وهكذا تمضي الايام ولا تعد جميلة.. "ولم يطل السفر كثيرا على وصولنا صنعاء.. ولكننا وصلنا وقد اتخذت قرارها بعدم العودة الى عدن... جعلني احس بان عدن لم تصل بعد الى صنعاء". فضاعات ما بعد الاقتتال الحزبي 1986. هرولة سلطات عدن نحو الوحدة مع صنعاء.. وكأنها تهرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.. مستعرضا اختلافات كثيرة بين نظامي عدن وصنعاء.. مستشرقا فشل تلك الهرولة.. أو القفز في الظلام. عام 1990 تعلن الوحدة الاندماجية.. بينما يراها بأن عدن الحقت بصنعاء.. مصورا إفراغ عدن من محتواها القيمي وثقلها لصالح صنعاء "عادت جميلة من موسكو الى صنعاء بشهادة الدكتوراه في الفلسفة وبصحبتها زوجها وابنها.. لكنها لم تجد شيئا يستحق العناء... عادت وهمها الأساسي أن تبتعد عن هذه البلاد وتهاجر وقد تحقق لها ذلك...". لتستقر في إحدى الدول الإسكندنافية. يختتم مبارك ذكرياته بالحرب التي دارت بين شركاء الوحدة.. وما خلفته في النفوس.. من تدمير لقيم كثيرة.. متحسرا على نهاية عصر كان فيه الأمل قوي ببناء دولة العدالة والحرية "لم أرى سوى كتلة سوداء... عفوا اختي هذا ال... ردت ما بك تدور حولي ؟ شممت في صوتها رائحة صوت جميلة في أول الأمر ... لكنها صرخت بعبارات لم افهمها. قفزت من فمي الكلمات أعتذر: عفوا عفوا...". هكذا يصور الوضع وقد وقف في إحدى شوارع عدن ينتظر حافلة تقله إلى "المنصور" يسأل امرأة متلفعة بالسواد فلا يميز قفاها من قبالتها. هذا النص النثري في لغته لا يقل اهمية عن نصوص مبارك الشعرية.. تلك التي يلون بها مسامعنا.. كذرات عطرة من قلب شاعر بكل صدق وحب .. لتصل قلب المتلقي دون عنا بما تحمله من دفء المشاعر ونزق اللحظة.. والم حسرة موت أمال طالما تغنينا بها . في هذا الإصدار كان صادقا مع نفسه.. منتقدا لكل الأوضاع التي مارستها الأنظمة المتوالية على عدن.. فلم ينصب ميزانا ليدين طرف على حساب طرف.. ولم يميل إلى صف أحدهم.. بل كان دوما في صف جميلة التي أفتقدها.. ولم تغادر خاطره.. هي أراء مبارك تلك التي دوما ما يرددها عن قناعات.. ولذلك يعاني من ردود الأفعال ممن لا يقبلوا التنوع والتعدد والاختلاف. شكرا أيها الشاعر والأديب الكبير.

الأكثر زيارة