تسبب وباء كوفيد- 19 بإقامة حواجز جديدة بين الدول بسرعة منقطعة النظير، مغلقاً حدوداً ومحظراً أسفاراً ومثيراً الشلل في سلاسل توريد، الأمر الذي أثار تساؤلات عن مصير العولمة، وهل ستكون ضحية لفيروس كورونا؟
وفي الواقع، كانت العولمة تواجه تراجعاً فعلياً حتى قبل تفشي المرض. ومنذ بلغت ذروتها قبل أزمة عام 2008، لم تستعد عافيتها.
ويرى ريتشارد فونتين، الرئيس التنفيذي لمركز الأمن الأمريكي الجديد، عمل في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية في عهد جورج بوش، أن الوباء سوف يسلط الضوء بالتأكيد على المخاطر الكامنة نتيجة الإفراط في الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية، والسعي نحو إعادة تأميم الإنتاج، والتركيز على فكرة الترابط الدولي.
تسارع تغيرات
ووفق ما عرضه فونتين، ضمن موقع "فورين بوليسي"، ستكون النتيجة المتوقعة على شكل تسارع لتغيرات بدأت منذ بعض الوقت نحو شكل جديد ومختلف وأكثر محدودية للعولمة.
وحسب كاتب المقال، لا يمكن إنكار مكاسب تحققت من خلال تعاون دولي في مجال السلع والخدمات ورأس المال والأفراد والمعلومات والأفكار. ولكن إبان الوباء، دخلت مخاطر التبعية في الوعي العام بشكل كامل. وظهرت أولى المؤشرات، بالنسبة للمستهلكين الأمريكيين عندما أغلقت مصانع في الصين بسبب الفيروس، ما أدى لتأخر وصول منتجات شركة آبل من الهواتف النقالة، وأعلنت شركات أخرى عن توقف إنتاجها. وعندما تفشى الوباء في الولايات المتحدة، علم الأمريكيون أن 72٪ من المنشآت المنتجة للمكونات الصيدلانية للاستهلاك الأمريكي منتشرة خارج البلاد- ومعظمها في دول الاتحاد الأوروبي والهند والصين.
ثم عمدت دول ليبرالية مشاركة عالمياً، كفرنسا وألمانيا لا لإغلاق حدودها أمام المسافرين وحسب، بل منعت تصدير الكمامات حتى لدول صديقة.( رفعوا بعد ذلك الحظر، ولكن بقيت الصدمة)، وعندما تحارب كل دولة من أجل إنقاذ نفسها، يصبح من الواجب على الأقل إعادة التفكير بالترابط الدولي.
إحياء التصنيع
وفي هذا السياق، يرى الكاتب أنه سيعاد بالتأكيد دراسة تلك الفكرة. وبالفعل أظهر الوباء، حتى في أيامه الأولى، هشاشة سلاسل التوريد، ودفع نحو تبني مواقف وطنية عوض أخرى تقوم على تعاون دولي، وتعزيز حجج قومية لإعادة إحياء التصنيع وتقييد الهجرة. كما بين الوباء أن الحكومات الوطنية لا تزال جهات فاعلة رئيسية، وتمثل الملاذ الأخير من أجل التصدي للوباء وعواقبه الاقتصادية.
إلى ذلك، لا يعني ذلك نهاية للعولمة، وفق الكاتب. وعوض ذلك، يتوقع أن يشهد العالم نسخة مختلفة أكثر محدودية من التكامل العالمي عما عرفناه خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
وبرأي الكاتب، كانت الاتجاهات التي ستسرع الآن قائمة أصلاً. ومضى وقت طويل منذ تركيز النقاش حول عالم مسطح وتدفق لرأس المال دون احتكاك، مع ممارسة التجارة الحرة. وعوض ذلك، دارت النقاشات السياسية الأخيرة حول الجدران الحدودية والانفصال عن الصين والحروب التجارية وبريكست والقومية الشعبوية، والتأكيد على السيادة الوطنية في مقابل شركات التكنولوجيا الأمريكية والصينية.
مؤشرات رئيسية
وتحمل مؤشرات رئيسية سمات ذلك التغيير. وقبل الوباء، كانت تجارة السلع العالمية لا تزال مرتفعة، لكن بالنسبة إلى الناتج الإجمالي الاقتصادي العالمي، فإن حصة تلك التجارة أقل حالياً عما كانت عليه قبل الأزمة المالية. فقد بلغت التدفقات المالية عبر الحدود ذروتها في عام 2007، وتوقف مزيد من التقدم في تحرير التجارة العالمية، قبل ذلك بوقت طويل. ولم يعد إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي إلى أعلى مستوياته منذ أكثر من عقد من الزمان. وتفرض الولايات المتحدة وحكومات أخرى قيوداً أكبر على تصدير تقنيات أساسية، وأصبحت الانترن ت منقسمة بشكل متزايد على أسس وطنية.
ولكن وفقاً لكاتب المقال، فإن العولمة شيء معقد. فقد تراجع حجم التجارة الدولية في السلع، ولكنه ارتفع في مجال الخدمات. وازداد تدفق المعلومات عبر الحدود بشكل دراماتيكي، حتى في ظل سعي دول مثل الصين وإيران لتقييد المعلومات. وشهد السفر الدولي والدراسة في الخارج أعلى مستوياتهما على الإطلاق قبل تفشي وباء كورونا. كما اتسع نطاق الهجرة لدرجة أن كثيرين وصفوها بأنها باتت تمثل أزمة. وهكذا كان الانخفاض الصافي من ذروة العولمة أكثر تواضعاً، بشكل عام، ولكنه كان مع ذلك حقيقياً.
أفضليات سياسية
ويبدو ذلك واضحاً من خلال أفضليات سياسية عبر عنها عدد من شعوب العالم. ووصل الأمر لدرجة أن معظم الساسة ذوي التوجه العالمي يتجنبون اليوم الترويج لفوائد السياسات المفتوحة، والتجارة وتدفق الأموال والمشاركة الدولية.
وحسب الكاتب، يفضل القوميون حدوداً قوية وفرض تعريفات جمركية، وقيود على الهجرة. وفيما هيمنت وعود العولمة على الخطاب السياسي، تقدمت اليوم التهديدات وأصبحت محور نقاش مستفيض.