لهذا السبب!

    ما سبب دراستك الصحافة والإعلام؟

 يُطرح عليَّ هذا السؤال كثيرًا، سواء عند زيارة الأماكن الجديدة، أو عند التعرف على صديقة جديدة، أو حتى من الأقارب: "لماذا دخلتِ الإعلام؟"..وجوابي دائمًا يكون بكل صراحة: "بالصدفة."

   وهنا تكون ردة فعلهم.. الدهشة مع مزيج من الاستغراب، ثم يأتي السؤال التالي: "كيف يعني بالصدفة؟!" نعم، لا تسألي! لكن بالفعل، دخلتُ هذا التخصص وسجّلت فيه بالصدفة المحضة.

   وتمضي أقول حلمي الأول تبخر! فلم يكن الإعلام يومًا ضمن اختياراتي، ولم يخطر ببالي أن أدرسه؛ لطالما كان حلمي الطب البشري، وتحديدًا تخصص طب الباطنة. كنت أضع لقب "دكتورة هِلالة" قبل اسمي في كثير من المناسبات، حتى أن صديقاتي حفظن اسمي بهذا اللقب على هواتفهن، وبعضهن لا يزال محتفظًا به حتى الآن.

   بدأ هذا الحلم منذ الصف التاسع، حين نصحني والدي رحمه الله بأن أواصل دراستي حتى أصبح دكتوره، لكنه لم يحدد أي تخصص.

   كنتُ أرى في نفسي طبيبة ناجحة، تداوي الجراح وتخفف آلام المرضى، حلمت أن أكون أول طبيبة في العائلة، مصدر فخر للجميع. لكن عندما تخرجت من الثانوية بمعدل 72%، توقف الزمن للحظة، وتبخر الحلم! فالطب يحتاج إلى معدل مرتفع، وأدركت أنني لم أحقق النسبة المطلوبة. 

  كم دعوت الله، وكم بكيت في صلاتي، وكم واجهت من سخريات من أقرب الناس لي، وكم طلبت من الجميع أن يدعو لي،  نعم، طلبت من الجميع أن يدعو لي لأحقق حلمي، لكن الأمر لم يكن بيدي. ---

    لم أسخط يومًا على قضاء الله وقدره؛ كنت أعلم أن ما يختاره لي هو الأفضل، لكنني كنت محتارة..ماذا أفعل الآن؟.          هل انتهى طموحي؟ حاولت الالتحاق بطب الأسنان بالنفقة الخاصة، لكنني لم أوفق ثلاث مرات.. فكرت في الالتحاق بالمعهد الصحي، لكن لم أشعر بالراحة تجاهه. في تلك الفترة، تلقيت اتصالًا من أختي، كانت تقرأ لي قائمة التخصصات المتاحة، وسألتني: "اختاري أحد هذه التخصصات، أو سجّلي في الـ IT مع توأمكِ." أجبتها بدهشة: "IT؟! أنا لا أحب الحواسيب ولا البرمجة، ولا أطيق الرياضيات والفيزياء والكيمياء! لا أحب أيًّا من هذه المواد!" ثم أغلقت الهاتف، وجلست أبكي.

    شعرت أن أحلامي تبددت، وأنني بلا مستقبل، بلا دراسة، بلا طريق واضح.

    بالصدفة! تساءلتُ: "ما الذي يناسبني؟ ما الذي أريده فعلًا؟" نظرتُ إلى قائمة التخصصات أمامي، وأغمضت عينيّ، ثم حركت يدي بعشوائية فوق القائمة، وقلت في نفسي: "سأدخل التخصص الذي ستقع يدي عليه، وأتوكل على الله!" فتحت عيني... وكانت يدي فوق تخصص الإعلام، شعرتُ بالذهول، هل هذه مجرد صدفة؟ أم رسالة من الله؟ لم أكن أعرف شيئًا عن الإعلام، ولم أفكر فيه يومًا، لكنه كان الخيار الذي اختارني.

   قبل أن أعرف حتى أن قسم الإعلام سيفتح في جامعة المهرة بكلية الآداب، كنتُ قد خضتُ تجربة غريبة جدًا مع صديقاتي، كنا في شبوة، ونزلنا إلى منطقة مليئة بالألغام، تحديدًا في بيحان، كانت هناك أحجار حمراء كتحذير "ممنوع العبور"، لكن الفضول دفعنا لاستكشاف المكان، أخذتُ ميكروفونًا كان يستخدمه أهلي للأذان، وبدأت بتغطية صحفية وهمية، كانت أختي تصورني، بينما أنقل الخبر من قلب الحدث بكل إتقان وجرأة، وكأنني مراسلة محترفة، لم أرتب كلامي مسبقًا، لكنه خرج بطريقة عفوية، سلسا..طبيعيا..من غير تدخل بشري، في تلك اللحظة، شعرت أنني قادرة على دخول هذا العالم، ربما لم يكن خيارًا عشوائيًا كما ظننت.

  بداية المشوار.. وردود الأفعال! بمجرد أن رأيت تخصص الإعلام في القائمة، عرفت أن الله قد اختاره لي.

   اتصلت بأختي فورًا، وأخبرتها بتسجيلي في الإعلام. تفاجأت قائلة: "ما الذي غير رأيك بهذه السرعة؟".

    أجبتها بحزم: "سجّلي الآن، وسأخبركِ لاحقًا" أبلغتُ أهلي، وكانت المفاجأة أنهم فرحوا جدًا، وردهم كان: "الإعلام يناسبكِ بشدة، يناسب شخصيتكِ تمامًا!" حتى صديقاتي أبدين نفس الرأي، لكنني تساءلت: "هل هذا الكلام مجاملة؟ أم أنهم يرون فيّ شيئًا لم أره بعد؟" على الجانب الآخر، لم يكن الجميع مؤيدًا لهذا القرار، فالبعض انتقد دخولي الإعلام بحكم أن "المجتمع اليمني محافظ، وقد لا يناسب هذا التخصص الفتيات." لكن ردي كان واضحًا: "مادام الأمر في حدود الشرع والأخلاق، فلا مانع من أن تكتسب الفتاة العلم والمعرفة لتفيد وطنها ونفسها." ط.

   أول خطوة في عالم الإعلام والاندماج فيه كانت عند دخولي القسم متوكلة على الله، ودعوت أن ييسر لي هذا الطريق الجديد، وأن يكون بابًا خيرًا لي، كنت أترقب يومي الأول بشغف وخوف في آنٍ واحد، وأتساءل: "هل سيعجبني هذا التخصص؟ هل سأجد نفسي فيه؟" مر الأسبوع الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، ولم أشعر بالوقت. بدأتُ أُحب الإعلام، ووجدت فيه عالمي الجديد، كان أكثر ما شدّني هو أسلوب تعامل الأساتذة والدكاترة، والأجواء المريحة داخل القاعة.

   مرت السنة الأولى بحلوها ومرّها، وكانت مليئة بالتجارب الملهمة. كانت أبرز محطاتها دورة قناة الجزيرة في المهرة، والتي كانت نقطة فارقة في رحلتي، بفضل الله ثم بفضل د. عبد الله بخاش. الآن، أنا في منتصف الطريق، في المستوى الثاني، الفصل الثاني، وأؤمن أن العامين القادمين سيمران بسرعة بفضل الله، وكما سهّل لي هذه السنين، سيسهل الباقي بإذنه، وسأصل إلى التميز والتفوق. 

     كل شخص يحلم بشيء وقد لا يناله، وربما حينها سيشعر بالخذلان؛ لتبدد أمنياته، اقول لا تيأسوا..فالأحلام إن لم تتحقق، فإنها تتبدل، وتتجدد، وتُعيد تشكيل نفسها بطرائق لم نتخيلها، فقد نظن أننا بحاجة لشيء معين، لكن الله يضعنا في طريق مختلف لنكتشف أننا كنا بحاجة إليه أكثر. "الإعلام لم يكن حلمي، لكنه أصبح قدري... وأنا مؤمنة بأن قدري أجمل مما تمنيت."