بودابست… انطباعات زائر

د. عبدالقادر المحوري

 

الحلقة الثانية: محطات الذاكرة… من بودا أورشي إلى سبدسالاش

 

منذ أن غادرناها في سبتمبر 1990، لم تغب بودابست عن الوجدان. ظلت تفاصيلها، شوارعها، أزقتها، ومشاهد الحياة فيها، حاضرة في ذاكرتنا، ترافقنا حيث حللنا، تتسلل إلى يومياتنا، وتزورنا في صمت كلما مرّ طيف ذكرى أو لحظة حنين.

 

نستعيدها أحيانًا بابتسامة، وأحيانًا أخرى بنوع من الحزن النبيل على عمر مضى، وعلى مواقف وذكريات طواها الزمن.

 

البداية… “بودا أورشي”

 

في معهد بودا أورشي لتعليم اللغة المجرية، بدأت الرحلة. كان اللقاء الأول مع مدينة جديدة، لغة غريبة، وأناس من ثقافات لا نعرف عنها سوى ما قرأناه في الكتب.

في قاعات المعهد، تعلّمنا الأبجدية الأولى في “اللغة الهنغارية”، وتعلّمنا كيف نعيش معًا كعشرين شابًا جاؤوا من جغرافيا يمنية مختلفة، لكنهم حاولوا أن يبنوا جسرًا واحدًا من الأخوّة والانتماء.

وفي تلك المرحلة، بدأت ملامح الانتماء إلى المكان تتشكّل، وتدور عجلة التأقلم والانتماء للمكان رويداً رويداً 

 

مأوانا الأول… “كاريكاش فريجاش”

 

كلية كاريكاش فريجاش كانت المهد الأول لإقامتنا. سكَنّا في شارع مينوشي أوت 27، حيث كانت الحياة بسيطة، والمشاعر صادقة، والضحكات تخرج من القلب بلا تصنّع.

تلك المناطق كانت أكثر من مجرد أماكن: كانت رئة تتنفس ذكرياتنا.

في الحدائق المجاورة، والملاعب الصغيرة، وسلالم الطريق التي يكسوها ثلج الشتاء ونتزلج منها عنوة في رحلةً الذهاب والعودة ، تركنا جزءًا من طفولتنا المتأخرة، وشبابنا الأول.

 

ثم قطار الذكريات إلى “سبدسالاش”

 

سنوات الدراسة قادتنا لاحقًا إلى ضواحي المجر، إلى بلدة هادئة تدعى سبدسالاش، كانت بعيدة في الجغرافيا لكنها اقتربت كثيرًا من أرواحنا.

هناك، بدأنا نكون “سكنى وسكن”، كما يُقال. تعرّفنا على شعب طيب، ودود، كان بسيطًا كالأرض التي يعيش عليها، دافئًا رغم برودة الطقس، كريمًا رغم محدودية العيش.

سبدسالاش لم تكن فقط مكان إقامة… كانت وطنًا مؤقتًا، نبتت فيه جذور الود، ونمت فيه علاقات، ولا زالت أحداثه وتفاصيله محفورة في وجدان كل واحد منا.

 

الحنين… والواقع المختلف

 

بعد 32 عامًا من الغياب، عدت لأزورها.

الحنين كان أقوى من الواقع، والذاكرة كانت أغزر من المشهد الراهن.

المدينة تغيّرت، شاخت بعض الأماكن، واختفت أخرى، ابحث عن ذكريات زملائي في الجوار لقد مر الجميع من هنا وصنعنا أحداثا ً بالتأكيد مواقفها يتذكرها زملائي جيداً 

لكن الذكرى… الذكرى وحدها بقيت شابة.

 

كلما مررت بجانب مكان لنا فيه ضحكة، أو صورة، أو موقف، غمرني شعور متناقض: فرح لأنني هنا من جديد، وحزن لأن الزمن لا يعيد التفاصيل كما هي.

 

ما تبقى…

 

ما تبقى هو جروب بسيط يجمعنا نحن خريجي المجر، نكتب فيه من حين لآخر، نسترجع أيامنا، نضحك من مواقف قديمة، ونتحسر على شباب مضى.

لكننا نعرف أن تلك الذكريات ليست مجرد لحظات، بل “حياة كاملة” عشناها هناك… بكل ما فيها.